فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} فَأَوْجَسَ: مَعْنَاهَا: أَضْمَرَ، أَوْ أَحَسَّ، أَوْ خَافَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فُوجِئَ بِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ اعتادَ رُؤْيتَهُ، وَأَلِفَهُ، بِأَنْ يَرَى ـ تَخَيُّلًا، عِصِيًّا وَحِبَالً تَتَحَوَّلُ إِلَى حَيَّاتٍ تَسْعَى، ثُمَّ يَرَى الجَمَادَ يَسْعَى وَيَتَحَرَّكَ يُمْنةً ويُسْرَةً، وَأَمَامًا وَوَرَاءً، فَهَذَا التَّحَوُّلُ المُفَاجِئُ للْحِسِّ يُرْهِبُ النَّفْسَ. وَالوَجَسُ: الصَّوْتُ الخَفِيُّ، والتَّوَجُّسُ: التَّسَمُّعُ، والإيجاسُ: وُجُودُ ذَلْكَ في النَّفْسِ.
قَالَ الفَرَّاءُ: "أَوْجَسَ": أَحَسَّ، وَوَجَدَ. (مَعَانِي القُرْآنِ وإعرابُهُ) لَهُ: (2/182). وَقالَ الزَّجَاجُ: "أَوْجَسَ": أَضْمَرَ. (مَعَانِي القُرْآنِ وإعرابُهُ) لهُ: (3/61). وَقَالَ فِي: (5/553) مِنْهُ: "أَوْجَسَ": وَقَعَ فِي نَفْسِهِ الخَوْفُ.
وَ "خِيَفَةً" الخِيفَةُ: بوزْنِ "فِعْلَةٍ" مِنَ الخَوْفِ، وَهِيَ الحَالَةُ الَتِي يَكونُ عَلَيْهَا الإِنْسانُ مِنَ الخَوْفِ. وقدْ قُلِبَتِ الوَاوُ ياءً لِسُكُونِهَا وَكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: صَارَ فِي حَالِ خَوْفٍ وَهَيْبَةٍ مِنَ المُفاجَأَةِ، وَلِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُؤَثِّرَ ذَلِكَ فِي الجَمَاهِيرِ الحَاشِدَةِ، فَتُصَدِّقُ هَذَا الإِفْكَ، وَلَقَدْ كَانَ اللهُ مَعَهُ، وَعَلِيمًا بِحَالِهِ، فَقَالَ لَهُ مُطَمْئِنًا: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} الآيةَ: 68، الآتيَة بعدها. وَإِنَّما خَافَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأَنَّ سِحْرَهُمْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا أَرَاهُمْ فِي العَصَا، فَخَافَ أَنْ يَلْتَبِسَ الأمْرُ عَلى النَّاسِ، فَلَا يُؤْمِنُوا بِرِسالَتِهِ. وَهَذَا هوَ مَعْنَى قَوْلِ الكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ.
وَقِيلَ: كَانَ خَوَفُهُ خَوفَ طِبَاعِ، لِكَثْرَةِ مَا خُيِّلَ لَهُ مِنْ حَيَّاتٍ عِظَامْ. وهذا الخوفُ إِنَّما كانَ بِمُقْتَضَى البَشَرِيَّةِ المَجْبُولَةِ عَلَى النَّفْرَةِ مِنَ الحَيَّاتِ وَالاحْتِرازِ عَنْ ضَرَرِهَا المُعْتَادِ مِنَ اللَّدْغِ وَنَحْوِهِ، وهوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "فِي نَفْسِهِ" لِأَنَّهُ مِنْ خَطَرَاتِ النَّفْسِ لَا مِنَ القَلْبِ، وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى هوَ مَنْ أَلْبَسَ السِّحْرَ لِبَاسَ القَهْرِ، فَقَدْ خَافَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ قَهْرِ اللهِ ـ لَا مِنْ غَيْرِهِ، لأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إلَّا الفَاسْقُونَ، وَهَذَا هو مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وَقِيلَ: خَافَ مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يَتَفَرَّقَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يَرَوْا مُعْجِزَةَ العَصَا حينَ يُلْقيها فَيُفْتَتَنُوا، وَذَلِكَ حِينَ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِالأَمْرِ بإِلْقَائها، واللهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ كَانَ السَّبَبُ أَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا الْتَقَى بِالسَّحَرَةِ وَقَالَ لَهُمْ في الآيَةِ: 61، السَّابِقَةِ: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ}، الْتَفَتَ فَإِذَا جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى تَرَفَّقْ بِأَوْلِيَاءِ اللهِ. فَقَالَ مُوسَى: يَا جِبْرِيلُ هَؤُلَاءِ سَحَرَةٌ جَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ لِيُبْطِلُوا الْمُعْجِزَةَ، وَيَنْصُرُوا دِينَ فِرْعَوْنَ، وَيَرُدُّوا دِينَ اللهِ، تَقُولُ: تَرَفَّقْ بِأَوْلِيَاءِ اللهِ! فَقَالَ جِبْرِيلُ: هُمْ مِنَ السَّاعَةِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عِنْدَكَ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي الْجَنَّةِ. فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، أَوْجَسَ فِي نَفْسِ مُوسَى خيفةً وَخَطَرَ فِي بالِهِ أَنْ مَا يُدْرِينِي مَا عِلْمُ اللهِ فِيَّ، فَلَعَلِّي أَكُونُ الْآنَ فِي حَالَةٍ، وَعِلْمُ اللهِ فِيَّ عَلَى خِلَافِهَا، كَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ. فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ مَا فِي قَلْبِ مُوسَى أَوْحَى إِلَيْهِ {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى} الآية: 68، أَيِ الْغَالِبُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الْجَنَّةِ، لِلنُّبُوَّةِ وَالِاصْطِفَاءِ الَّذِي آتَاكَ اللهُ بِهِ. وَأَصْلُ "خِيفَةً"، "خِوْفَةً" فَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ الْخَاءِ. فَأَسَرَّ "خِيفَةً" أَنْ يَلْتَبِسَ الأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فَيَظُنُّوا أَنَّ الذي فَعَلَهُ السَّحَرةُ مِثْلُ فِعْلِهِ، أَوْ وَجَدَ مَا هُوَ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ مِنَ الحَذَرِ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} الفَاءُ: للعَطْفِ والتَّعْقيبِ. و "أَوْجَسَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوْجَسَ"، وَ "نَفْسِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "خِيفَةً" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "مُوسَى" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها عَلَى اْلَأَلِفِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {حِبَالُهم} أَوْ عَلَى جُملةِ المُفَاجَأَةِ المَقَدَّرَةِ، مِنَ الآيةِ الَّتي قَبْلَها فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.