ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى
(122)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، وقرَّبَهُ مِنْ جنابِهِ، وأَنْزَلَهُ في رِحابِهِ، وشَمَلَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَقالَ حَبْرُ الأُمَّةِ وَتَرْجُمانُ القُرْآنِ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما: اصْطَفَاهُ وَتَابَ عَلَيْهِ.
والاجْتِباءُ: الاخْتِيَارُ، كَمَا قالَ في الآيةَ: 203، مِنْ سُورَةِ الأَعْرافِ: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا}، أَيْ: لَوْلَا اخترتَها مِنْ : جَبَى الشَّيْءَ يَجْبيهِ، إِذا جَمَعَهُ لنفسِهِ مُخَتَارًا لَهُ، وجُبِيَ إِلَيْهِ جَمَعَهُ إِليْهِ غيرُهُ، وَقَالَ فِي الآيةَ: 6، مِنْ سُورةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}، يَصْطَفِيكَ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ، ويُخلِصُكَ لعبادَتِهِ وخِدْمتِهِ.
قوْلُهُ: {فَتَابَ عَلَيْهِ} فَتَابَ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ عَنْهُ وَعَنْ زَوْجِهِ حِينَ قَالَا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا. وَهُوَ ـ سُبْحانَهُ، الذي هَدَاهُما إِلَى طريقِ التَّوْبَةِ إِذْ عَلَّمَهُ مَا يَقُولَا ـ كَمَا تَقَدَّمَ في تَفسيرِ الآيةِ الَّتي قَبْلَها.
قولُهُ: {وَهَدَى} أَيْ: وَهَدَاهُ. قَالَ الكَلْبيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: هَدَاهُ بِالتَّوْبَةِ. وَالْهِدَايَةُ: الْإِرْشَادُ إِلَى النَّفْعِ. فإِذا اقْتَرَنَتِ الهِدَايَةُ في القُرْآنِ الكَريمِ معَ الاجْتِباءِ كانَ الْمُرَادُ بِهَا النُّبُوَّةَ كَمَا فِي قولِهَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْأَنْعَامِ: {وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الآيةَ: 87، لأَنَّهُ ذَكَرَ في الآياتِ التي قبلَها: إِبْراهيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ ودَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ـ على نَبيِّنا وَعَلَيْهِمْ جَميعًا الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَكمَا قَالَ مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} الآية: 121. لأَنَّ الحديثَ كانَ عَنْ سَيِّدِنا إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قالَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
قوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وتَرْتيبٍ وَتَرَاخٍ. و "اجْتَبَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. و "رَبُّهُ" مَرْفوعٌ بالفاعِلِيَّةِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ في الآيةِ التي قبلها: {فَغَوَى} عَلَى كَوْنِها مَعطوفةً على جملةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ ليسَ لَهَا محلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَتَابَ عَلَيْهِ} فَتَابَ: الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ للتَّعْقيبِ، و "تابَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "رَبّهُ" ـ سُبْحانَهُ، و "عَلَيْهِ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَابَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: "اجْتَبَاهُ".
قولُهُ: {وَهَدَى} الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ، و "هَدَى" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ على الأَلِفِ. وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ على "رَبُّهُ" ـ سُبحانَهُ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جمْلةُ "تَابَ" فلا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.