فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى
(121)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {فَأَكَلا مِنْها} إِذًا لَقَدْ نَسِيَ أَبَوانا: آدَمُ وحَوَّاءُ وصيَّةَ مَوْلاهُمَا بعدَمِ طاعَةِ عَدُوِّهِما إِبْلِيسَ، وَتَحْذيرَهُ لَهُمَا مِنْ أَنْ يأْكُلا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ بِعَيْنِها مِنْ أَشجارِ جَنَّةٍ عَرَضُها السَّمَواتُ والأرضُ، وَلْيَأْكُلا ما شَاءَا مِمَّا يَلَذُّ ويُسْتَطابُ لَهُمَا مِنْ ثِمَارِ بَقِيَّةِ أَشْجَارِ تِلْكَ الجَنَّةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ أَشْجارُها وَلَا تُحْصَى، فأَكَلا مِنَ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ المنهيِّ عَنْها.
قولُهُ: {فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما} فلمَّا أَكَلَا بدَتْ لهما سَوْآتُهُما، أَيْ: ظَهَرَتْ لَهُمَا عَوْرَاتُهُما، فَلَمَّا رَأَيَاهَا اسْتَحْيَيَا مِنْهَا.
وَ "سَوْآتُهُما" جَمْعَ سَوْءَةٍ، وَالسَّوْأَةُ: مَا يَسُوءُ، أَيْ يُكْرَهُ، وَهُوَ مِنْ: ساءَهُ، يَسُوءُهُ، سَوْءًا، وَسُوءًا، وَسَواءً، وَسَواءَةً، وَسَوايَةً، وَسَوائِيَةً، ومَساءَةً، وَمَسايَةً، وَمَسَاءً، ومَسائِيَةً: إِذا فَعَلَ بِهِ مَا يَكْرَهُ، أَيْ نَقِيضَ سَرَّهُ. والاسْمُ السُّوءُ ـ بالضَّمِّ، وسُؤْتُ الرَّجُلَ سَوايَةً. وَالعَوْرَةُ هِيَ المَكانُ الَّذي يَسْتَحِي الإِنْسانُ أَنْ يَراهُ الآخَرونَ مِنْ جِسْمِهِ، وَيَسُوءُهُ ذَلِكَ، وَهُوَ القُبُلُ، مَكَانُ خُرُوجِ فَضَلَاتِ الشَّرابِ، وَالدُّبُرُ، مَكَانُ خُرُوجِ فَضَلاتِ الطَّعامِ، للذَّكَرِ وَالأُنْثَى.
قولُهُ: {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا: مِثْلُ جَعَلَ يَفْعَلُ كذا، وَأَخَذَ، وَأَنْشَأَ. وَحُكْمُهَا حُكْمُ "كَادَ" فِي مَجيءِ خَبَرِها فِعْلًا مُضَارِعًا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ قَصِيرَةٌ، وَهِيَ لِلشُّرُوعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَكَادَ لِمُقَارَبَتِهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ.
"يخصِفانِ" أَيْ يُلْزِقَانِ وَرَقَ التِّينِ عَلَى سَوْآتِهِمَا لِلسَّتْرِ، وَهُوَ مِنْ خَصَفَ النَّعْلَ إِذَا خَرَزَ عَلَيْهَا الْخِصَافَ. وَقَدْ كانَ سيِّدُنا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يخصِفُ نَعْلَهُ بِيَدِهِ الشَّريفَةِ، نَقَلَ هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا؟. قَالَتْ: (نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ، كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ). أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (6/106، و 121، و 167، و 260). وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ: (1482). والبُخَارِي في (الأَدَبِ المُفْرَدِ): (539 و 540). والخَصَفَةُ بالتَّحْريكِ: الجُلَّةُ الَّتي تُعْمَلُ مِنَ الخُوصِ للتَّمْرِ، جَمْعُها خَصَفٌ وخِصافٌ. وَالأَخْصَفُ: هُوَ الْأَبْيَضُ الخَاصِرَتَيْنِ مِنَ الخَيْلِ وَالغَنَمِ. وَالْأَخْصَفُ: مَا كانَ رَمَادِيَّ اللَّوْنِ، فِيهِ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ. قَالَ الطِّرِمَّاحُ:
وخَصِيفٍ لذِي مَناتِجِ ظِئْرَيْــ ................. ــنِ مِنَ المَرْخِ أَتْأَمَتْ رَبْدُهُ
الظِّئرُ: الَّتِي تَعْطِفُ عَلَى غَيْرِ وَلَدِها، وَالمَرَخُ: المِزاحُ، واتَّأَمَ الرَّجُلُ يَتَّامُ اتِّيامًا، إِذَا ذَبَحَ تَيْمَتَهُ وَهِيَ الشَّاةُ غَيْرُ السَّائِمَةِ يَحْبِسُهَا فِي بَيْتِهِ لِيَحْلِبَها. والرَّبْدُ: الحَبْسُ، والمِرْبَدُ: المَكانُ الّذي يُحْبَسُ فِيهِ. شَبَّهَ الشّاعرُ الرَّمادَ: بالبَوِّ، والبَوُّ: جِلْدُ الحُوارِ يُحْشَى ثُمامًا فَتُعْطَفُ عَلَيْهِ النَّاقَةُ إِذَا مَاتَ وَلَدُهَا. وَظِئْرَاهُ أُثْفِيتَانِ أُوقِدَتِ النَّارُ بَيْنَهُما. وقَالَ الشَّاعِرُ الرَّاجِزُ العَجَّاجُ يَصِفُ الصَّباحَ:
حَتَّى إِذَا مَا لَيْلُهُ تَكَشَّفَا ................ أَبْدَى الصَّبَاحُ عَنْ بَريمٍ أَخْصَفَا
قَوْلُهُ البَريمُ: حَبْلٌ فِيهِ لَوْنانِ أَسْوَدُ وَأَبْيَضُ، وَقَالَ الآخَرُ:
وأَبُوكَ يَخْصِفُ نَعْلَه مُتَوَرِّكًا ............. ما يَمْلك المِسْكينُ مِنْ قِطْميرِ
وَكَتِيبَةٌ خَصِيفةٌ: فِيها مِنْ صَدَأِ الحَديدِ وَبَيَاضِهِ. وخَصَّفَهُ الشَّيْبُ تَخْصِيفًا، وَخَوَّصَهُ تَخْوِيصًا، وثَقَّبَ فِيهِ تَثْقيبًا: كُلُّها بِمَعْنى وَاحِد.
قولُهُ: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ} أَيْ: خالفَ أَمْرَ ربِّهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} الآيَةَ: 35، وذلكَ بِسَببِ نِسْيانِهِ كما قالَ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 115، السابِقَةِ: {فَنَسِيَ} وَمِنْهمْ قالَ بِصُدورِ الْكَبِيرَةِ عَنْهُ ـَ عليْهِ السَّلامُ، مُعْتَمِدًا عَلى هَذِهِ الآيةِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ اسْمٌ الْعَاصِي إِلَّا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النِّساءِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِدًا فِيها} الآيَةَ: 14، وَلَا مَعْنَى لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَوَايَةَ وَالضَّلَالَةَ اسْمَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَالْغَيَّ ضِدُّ الرُّشْدِ، وَمِثْلُ هَذَا الِاسْمِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلى الْفَاسِقِ.
وأُجيبَ عَنْهُ بأَنَّ الْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ بِوَاجِبٍ، وَقدْ يكونُ في مُسْتَحَبٍّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَشَرْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ فِي كَذَا فَعَصَانِي، وَأَمَرْتُهُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ فَعَصَانِي، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعِصْيَانِ عَلَى آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ بَلْ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْمَنْدُوبِ.
وَرَدَّ الفَريقُ الأَوَّلُّ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاصِيَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ، وَالْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ فَوَجَبَ تَخْصِيصُ اسْمِ الْعَاصِي بِتَارِكِ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ عَاصِيًا لَوَجَبَ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ، فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ بِالعَاصي مَجَازٌ، وَالْمَجَازُ لَا يَطَّرِدُ، قُلْنَا: لَمَّا سَلِّمَ بِكَوْنِهِ مَجَازًا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْعِصْيَانِ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِيجَابِ، والإجْماعُ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ مِنَ الله تَعَالَى يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعِصْيَانِ عَلَى آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، وظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، وَلَا يَلِيقُ العِقابُ بِالصَّغِيرَةِ، والحَقُّ أَنَّ هَذِهِ المَعْصِيَةَ كانتْ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، لِيَهْبِطَا إلى الأَرْضِ، ويُنْجِبَا الذُّرِّيَةَ الَّتي كانَ مِنْهَا مَنْ عَرَفَ اللهَ فوحَّدَهُ ومجَدَّهُ واتَّقاهُ، وهي الغايةُ مِنَ الخَلْقِ، قالَ تعالى في الآيةِ: 56، مِنْ سُورةِ الذَّارياتِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون}، فكانَ مِنْ هذِهِ الذُّريَّةِ الأَنْبِيَاءُ والصُلَحاءُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ منْ ثِمَارِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ إلَّا سيِّدُ الأوَّلينَ والآخرينَ وإمامُ الأَنْبِياءِ وَالمُرْسَلِينَ وَحَبيبُ رَبِّ العَالَمِينَ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ لَكَفَى بها نِعْمَةً. وأَخْرَجَ الأئمَّةُ الثِّقاتُ عنْ أبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى: فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في "مُسْنَدِهَ" (7387)، والبُخَارِيُّ في صحيحِهِ: (11/505، برقم: 6614)، وَمُسْلِمٌ في صحيحِه: (4/4042، بِرَقَم: 2652). وَأَبو دَاوُدَ في سُنَنِهِ: (7/87) والتِّرْمِذِيُّ: (2268)، وابْنُ مَاجَهْ: (برقم: 80)، والنسائي في "السُنَنِ الكبرى": (برقم: 11123) وابْنُ حِبَّان: (6179). والبغويُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (1/124). وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ: ((قَالَ آدَمُ يَا مُوسَى بِكَمْ وَجَدْتَ اللهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى)).
قوْلُهُ: {فَغَوى} قِيلَ: مَعْنَاهُ خَابَ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لِيِسْتَمِرَّ بَقَاؤُهُ، ويَدومَ مُلْكُهُ، ثُمَّ زَالَ وخَابَ سَعْيُهُ قِيلَ: إِنَّهُ غَوَى، أَيْ: ضَلَّ السَّبيلَ وَتَاهَ، فَالْغَيُّ ضِدُّ الرُّشْدِ، وَالرُّشْدُ هُوَ أَنْ يُتَوَصَّلَ المَرْءُ بِشَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَقْصُودِهِ، أَمَّا إِذا حَصَلَ لَهُ ضِدُّ مَا أَرَادَ، كَانَ ذَلِكَ غَيًّا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "غَوَى" بَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. وهَذَا وَإِنْ صَحَّ عَلَى لُغَةِ طيِّءٍ الذينَ يَقْلِبُونَ الياءَ المَكْسُورَ مَا قبْلُهَا أَلِفًا، كَ "فَنِيَ" وَ "بَقِيَ" فيقولُونَ: "فَنَا" وَ "بَقَا"، فَهُوَ عندَ الزَّمَخْشَرِيِّ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، وَالْأَوْلَى عِنْدِ الفَخْرِ الرَّازيِّ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ عَاصِيًا غَاوِيًا، وَإِنْ دَلَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ آدَمَ "عَصَى" وَ "غَوَى"، وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: يُقَالُ لِرَجُلٍ قَطَعَ ثَوْبًا وَخَاطَهُ قَدْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ، وَلَا يُقَالُ: خَائِطٌ وَلَا خَيَّاطٌ حَتَّى يَكُونَ مُعَاوِدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْرُوفًا بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الزَّلَّةَ لَمْ تَصْدُرْ عَنْ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْزَّلَّةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ قَبِلَ الله تَوْبَتَهُ وَشَرَّفَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، كَمَا لَا يجوزُ أَنْ يُقَالُ لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْكُفْرِ إِنَّهُ كَافِرٌ، يُرادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَحَتَّى لَوْ أَنْها كانَتْ بَعْدَ نُبُوَّتِهِ فلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ في حقِّهِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَابَ، كَمَا لا يَجوزُ أَنَّ يُقالَ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ شَرِبَ خَمْرًا ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ: هذا شَارِبُ خَمْرٍ.
ثُمَّ إِنَّ هَاتَيْنِ اللَّفْظَتَينِ "عَصَى" وَ "غوى" وردَتا فِي الْقُرْآنِ الكريمِ مَقْرُونَتَيْنِ بِالْقِصَّةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَصَى كيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذا يَدْفعُ ذاكَ التَّوَهُّمَ الْبَاطِلَ. وَما جُازَ مِنَ اللهِ تَعَالَى قولُهُ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ للوالدِ في ولَدِهِ، ولِلسَّيِّدِ فِي عَبِدِهِ ما لا يجوزُ فِيهما لِغَيْرِهِ. سِيَّمَا أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، قَالَ بَعْدَهَا: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}. وَقدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((لَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى بُكَاءِ دَاوُدَ، كَانَ بُكَاؤُهُ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ نُوحٍ، لَكَانَ بُكَاءُ نُوحٍ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِنَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ آدَمَ ، لَكَانَ بُكَاءُ آدَمَ عَلَى خَطِيئَتِهِ أَكْثَرَ)).
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ بُكَاؤُهُ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَقُولَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ" فَقَالَهَا آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَالَ قُلْ: "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. ثُمَّ قَالَ قُلْ: "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ هِيَ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ رَبِّهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَأَكَلا مِنْها} الفاءُ: للعَطْفِ والتعقيب. و "أكلا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وأَلِفُ الإثْنَيْنِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، و "مِنْها" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بـ "أكلا"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ مُقَدَّرٍ مُسْتَأْنَفٍ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما} الفاءُ: للعَطْفِ والتعقيبِ، و "بَدَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنيْنِ، والتاءُ السَّاكنَةُ: لِتَأْنيثِ الفاعِلِ. و "لهما" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بَدَتْ"، و "هُما" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "سَوْآتُهُمَا" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، و "هما" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَكَلَا".
قولُهُ: {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "طَفِقَا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مِنْ أَفعالِ الشُّروعِ يعملُ عَمَلَ "كانَ" وأَلِفُ التثنيةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُهُ؛ و "يَخْصِفانِ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وأَلِفُ التَثْنِيَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "عَلَيْهِمَا" عَلَى: حَرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَخْصِفَانِ" أَيْ: لِأَجْلِ سَتْرِ سَوْءَتَيْهِما فَـ "على" هنا تَعْلِيلِيَّةٌ، و "هما" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ مَحْذوفٍ هُوَ المَفْعُولُ بِهِ؛ تقديرُهُ: وَرَقًا كَائِنًا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، و "وَرَقِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "الْجَنَّةِ" مَجْرُورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "طَفِقَا" وَجُمْلَةُ "طَفِقَا"، مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُما".
قولُهُ: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ} الواوُ: اسْتِئنافِيَّةٌ، وَ "عَصَى" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، و "آدَمُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "رَبَّهُ" مَنْصوبٌ على المَفْعُولِيَّةِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "فبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُما".
قوْلُهُ: {فَغَوى} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّعْقِيبِ، وَ "غَوَى" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يعودُ على "آدَمُ" ـ عَلَيْهِ السَلامُ، والجُمْلةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "عَصَى".
قَرَأَ العامَّةُ: {يَخْصِفانِ} بالتَّخفيفِ، وَقُرِئَ أَيْضًا "يَخِصِّفَانِ" مُضَعَّفًا وَذلكَ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ.