إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} إِنَّ: هنا فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِـ "أَنْ"، كَمَا تَقُولُ: إِنَّ لَكَ مَالًا. فَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ تَعَالَى لِأَبينا آدَمَ وزوجِهِ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، بِجَمِيعِ حَاجَاتِهِما ومُقَوِّماتِ حَيَاتِهِما في الَجَنَّةِ مِنَ الطَّعامِ الذي يحفظُ عَلَيْهِ حياتَهُ، واللِّباسِ الذي يستُرُ جَسَدَهُ مَا دَامَ فِيها، وَذَلِكَ كُلُّهُ دُونَ أَيِّ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ، أَوْ جُهْدٍ يَبْذُلُهُ، أَوْ كَسْبٍ مِنْهُ، كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا في حياتِهِمُ الدُنيا.
وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلشَّقَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ في الآيةِ التي قبلَها، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمَتَّعًا فِي الْجَنَّةِ بِرَفَاهِيَةِ الْعَيْشِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَشْرَبٍ وَاعْتِدَالِ جَوٍّ مُنَاسِبٍ لِلْمِزَاجِ كَانَ الْخُرُوجُ مِنْهَا مُقْتَضِيًا فِقْدَانَ ذَلِكَ.
وَثَمَّةَ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ هُنَا عَلَى أَنَّ الشَّقَاءَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ فَي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ تَعَبُ الدُّنْيَا فِي الكدْحِ والكَدِّ لِتَأْمِينِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ، وَالْعُرْيَ عنْ نَفْسِهِ.
وَالْجُوعُ مَعْرُوفٌ، وَالْعُرْيُ بِالضَّمِّ: عَدَمُ سَتْرِ الجِسْمِ بِلِباسٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَواءً أَكَانَ مَخِيطًا أَوْ غَيْرَ مَخِيطٍ، فَالْعُرْيُ: تَجَرُّدُ الجِلْدِ عَنْ شَيْءٍ يَقِيهِ. يُقال مِنْهُ: عَرِيَ يَعْرِى عُرِيًّا قَالَ الشَّاعِرُ مِرْداسُ بْنُ أُدَيَّةَ ـ وقيلَ غَيْرُهُ:
وإنْ يَعْرَيْنَ إِنْ كُسِيَ الجَواري ............. فَتَنْبُو العينُ عَنْ كَرَمٍ عِجافِ
وَهُوَ مِنْ عَرِيَ فُلانٌ مِنْ ثَوْبِهِ يَعْرَى عُرْيًا فهُوَ عَارٍ وعُرْيَانٌ، وَالأُنْثَى عُرْيَانَةٌ وعَرِيَةٌ، والمَصْدَرُ: العُرِيُ. ومِنْهُ قولُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في الصَّحيحِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَكِبَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيًا. فقد أَخْرَجَ الأَئِمَّةُ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلًّمَ، فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ: الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: ((مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا)).
ـ وَفي رِوَايَةٍ: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً، فَرَكِبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ، كَانَ يَقْطِفُ، أَوْ كَانَ فِيهِ قِطَافٌ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: ((وَجَدْنَا فَرَسَكُمْ هَذَا بَحْرًا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُجَارَى)).
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/170، برقم: 12774)، وَالبُخَارِي في صحيحِهِ: (3/216، برقم: 2627)، ، وَمُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (7/72، برقم: 6073)، وأَبُو دَاوُدَ: (برقم: 4988)، والتِّرْمِذِيُّ: (برقم: 1685) وَالنَّسَائيُّ في "السُّنَنِ الكُبْرَى": (برقم: 8770).
قوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيد. و "لَكَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لِـ "أَلَّا"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "أَلَّا" هِيَ "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ وَمَصْدَرٍ، و "لا" نَافِيَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "تَجُوعَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ"، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى "آدَمُ" ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. و "فِيهَا" في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَجُوعَ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، و "أَنْ" مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى كَوْنِهِ اسْمَ "إِنَّ" مُؤَخَّرًا، والتَّقْديرُ: إِنَّ عَدَمَ الجُوعِ وَالعُرْيِ كَائِنٌ لَكَ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مَعَ اسْمِها وخَبَرِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُول القولِ لـ "قُلْنَا".
قولُهُ: {وَلَا تَعْرَى} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "لا" نافيَةٌ مُؤَكِّدةٌ للأُولى، وَ "تَعْرَى" فعلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" مَعْطوفٌ عَلَى "تَجُوعَ"، وعلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِها على الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى "آدَمُ" ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفةٌ عَلَى جُمْلِةِ "تَجُوعَ" عَلَى كَونِها صِلَةَ "إِنَّ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.