وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إِبْلِيسَ أََبَىِ (116)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} بَيَانٌ للمَعْهُودِ في جُمْلَةِ قولِهِ: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} الآيةَ: 115، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، وكَيْفِيَّةِ نِسْيَانِهِ وضَعْفِ عَزْمِهِ. وَالخِطَابُ لِسَيِّدِنا محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُخْبِرَ أُمَّتَهُ بِعَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُمْ فتَحْذَرَ إِغْواءَهُ وَوَسْوَسَتَهُ، التي تَوَّعَدَهُمْ بها إِذْ قَالَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الآيةَ: 39، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ. ثمَّ أَقْسَمَ عَلى ذلِكَ فَقالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين} الآيةَ: 82، مِنْ سُورَةِ (ص). وَضَميرُ المُتَكَلِّمِ في "قُلْنَا" عائدٌ للهِ تَعَالَى، وَالأَمْرُ بالسُّجودِ مُوجَّهٌ للمَلائِكَةِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.
قوْلُهُ: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى} أَيْ فَسَجَدُوا طائِعِينَ مَعَ مُعَارضَتِهمْ لِخِلافَتِهِ فِي الأَرْضِ، في البِدايةِ إِذْ قالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} الآيةَ: 30، مِنْ سورةِ البَقَرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ اللهَ قَدْ فَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَّمَهُ ما لَمْ يُعَلِّمْهُمْ، حَيثُ عَلَّمَهُ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا. أَمَّا إِبْلِيسُ فَقَدْ عَارَضَ أَمْرَ رَبِّ العَالَمِينَ وَأَبَى السُّجُودَ لآدَمَ، ولمْ يُذْكَر هُنَا أَسْبابَ عَدَمِ السُّجُودِ، بَيْنَمَا ذَكَرَهُ في الآيَةِ مِنْ سُورةِ: ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} الآيةَ: 12، مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافَ. ونَسِيَ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} الآيةَ: 23، مِنْ سُورةِ الأَنْبِياء. لَقَدْ كانَ إِبْلِيسُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الأَمْرِ بالسُّجُودِ، سَوَاءً أَكَانَ مِنْهُمْ ـ كَمَا قالَ بعضُ العُلَمَاءِ، أَمْ لَمْ يَكُنْ ـ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمُ الآخَرُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الأَمْرِ بالسُّجودِ لآدَمَ، يَدُلُّ لِذلِكَ الاسْتِثْنَاءُ في قَوْلِهِ: "إِلَّا إِبْلِيسَ"، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ بَلْ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا، فَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْطُوفَةً اهْتِمَامٌ بِهَا لِتَكُونَ قِصَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَتَلْفِتَ إِلَيْهَا أَذْهَانَ السَّامِعِينَ. فَتَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً قِصَّةَ آدَمَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى في الآيةِ: 10، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المباركةِ: {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَارًا}، وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَتَكُونَ جُمْلَةُ وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ تَذْيِيلًا لِقِصَّةِ هَارُونَ مَعَ السَّامِرِيِّ وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ هَارُونَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَارُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَا عَهِدَ إِلَيْهِ مُوسَى. وَانْتَهَتِ الْقِصَّةُ بِذَلِكَ التَّذْيِيلِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى قِصَّةَ آدَمَ تَبَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ} الآيةَ: 99، السَّابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الكريمةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ بِمُضْمَرٍ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: واذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِنَا للمَلَائِكَةِ .. . وَهُوَ مَعْطوفٌ عَلِى مُقَدَّرٍ، والتَّقْديرُ: اذْكُرْ هَذَا وَاذْكُرْ إِذْ قُلْنَا، أَوْ هوَ مِنْ عَطْفِ القِصَّةِ عَلَى القِصَّةِ. وَ "قُلْنا" فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "لِلْمَلَائِكَةِ" اللامُ: حَرْفُ جَرِّ مُتَعَلِّقٌ بـ "قُلْنا"، و "المَلائِكَةِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وجُمْلَةُ "قلنا" الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بإِضافةِ "إذ" إِلَيْهَا.
قولُهُ: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} اسْجُدُوا: فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ. و "لآدَمَ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "اسْجُدُوا"، و "آدَمَ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جرِّهِ الفتحةُ عِوضًا عَنِ الكَسْرةِ لأنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعلميَّةِ والعُجْمَةِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قُلْنا".