يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا
(108)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} قُدِّمَ الظَّرفُ "يومئذٍ" هُنَا عَلَى عامِلِهِ "يَتَّبِعُونَ" لِيَقومَ مُقَامَ الْعَطْفِ فِي الْوَصْلِ، وللتنبيهِ إِلى أَهَمِّيَّةِ ذَلِكَ اليَوْمِ وَعَظَمَتِهِ.
وَ "يَتَّبِعُونَ" أَيْ: يَوْمَ تُنْسَفُ الْجِبَالُ نَسْفًا فَتُصْبِحُ قاعًا صَفْصَفًا لَا يُرَى فِيهَا عِوَجٌ وَلَا أَمْتٌ، يُنَادَى عَلَيْهِمْ بِنِدَاءِ التَّسْخِيرِ وَالتَّكْوِينِ، وَيُدْعَوْنَ فَيَسْمَعُونَ ويُطيعونَ، ويُلبُّونَ مُضطَّرينَ غيرَ مُخْتارينَ، وَيتَّبِعونَ نِداءَهُ إِلَى المَحْشَرِ المَخْلوقِ لِهَذِهِ الغايةِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ، لِيُحاسِبُهُم رَبُّهُمْ، على ما قدَّموا مِنْ عَمَلٍ في حَياتِهِمْ الأُولَى، ويُجازي كلًا بِعَمَلِهِ.
وَ "الدَّاعِي"، أَيْ: (صَوْتَ الدَّاعِي للحَشْرِ) قالَهُ الفرَّاءُ: "مَعَاني القُرْآنِ" لَهُ: (2/192). أَيَّ: يَتَّبِعُونَ صَوْتَ دَاعِي اللهِ تَعَالَى الذي يَدْعُوهُمْ إِلَى مَوْقِفِ يومِ القِيامَةِ. فَقِيلَ: هُوَ إِسْرَافِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ هُوَ المَلَاكُ المُكَلَّفُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ وَدَعْوةِ الخَلْقِ إلى الْمَحْشَرِ، فَتَعُودُ الْأَجْسَادُ كَمَا كانتْ، وَتَرْجِعُ إِلَيْهَا الْأَرْوَاحُ، وَتَهْطَعُ إِلَى الْمَحْشَرِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الدَّاعِي هُوَ الرَّسُولُ، أَيْ يَتَّبِعُ كُلُّ قَوْمٍ رَسُولَهُمْ.
قوْلُهُ: {لَا عِوَجَ لَهُ} أَيْ: لَا عِوَجَ ولا حَيْدَةَ لِدُعَاءِ الْمَلَكِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الخلْقِ، فهُوَ يَدْعُوا جَمِيعَ المَخْلوقاتِ وَلَا يَعْدِلُ بِدُعَائِهِ عَنْ أَحَدٍ.
وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادَ بِالْعِوَجِ الْبَاطِلُ وذلكَ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْعِوَجَ كَقَوْلِهِمْ الذي حكاهُ اللهُ عَنْهُم في الآيةِ: 8، مِنْ سُورَةِ الفُرقانِ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَكَاذِيبِهِمْ، كَمَا عَرَّضَ بِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْكَهْف: {الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا} الآيةَ: 1.
وقِيلَ: المَعْنَى لَا تَحِيدُ الخلائقُ، وَلَا تَمِيلُ عَنِ الدَّاعي يَمِينًا، وَلَا شِمَالًا، فَـ "عِوَجَ لَهُ" حَالٌ مِنَ الدَّاعِيَ. قالَ الفَرَّاءُ: لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنِ الدَّاعِي، وَجَازَ أَنْ يَقولَ: "لَهُ"؛ لِأَنَّ المَذْهَبَ إِلَى الدَّاعِي وَصَوْتِهِ، فَهُوَ كَمَا تَقُولُ في الكلام: دَعَوتَني دَعْوةً لِا عِوَجَ لَكَ عَنْهَا، أَيْ: إِنَّي لَا أَعْوِجُ لَكَ وَلَا عَنْكَ). "مَعَاني القُرْآنِ" لَهُ: (2/192).
وَقالَ الزَّجَّاجُ أَبو إِسْحَاق: المَعْنَى لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْ دعُائِهِ، لَا يَقْدِرونَ أَن لَّا يَتَّبِعوا. "معاني القرآنِ وإعْرابُهُ" لَهُ: (3/377). وَهَذَا هوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: يُريدُ: البَعيدَ وَالقَريبَ سَواءً كُلّهُمْ يَتَّبِعُ الصَّوْتَ وَلَا يَتَعَوَّجُ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: (يَحْشُرُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلْمَةٍ، تُطْوَى السَّمَاءُ وَتَتَنَاثَرُ النُّجُومُ، وَتَذْهَبُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَيُنادِي مُنَادٍ، فَيَسْمَعُ النَّاسُ الصَّوْتَ فَيَأْتُونَهُ). فَذَلِك قَولُهُ: "يَوْمئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لَا عِوَجَ لَهُ" الآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي صَالحٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "يَوْمئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لَا عِوَجَ لَهُ"، قَالَ: لَا عِوَجَ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَا عِوَجَ لَهُ" لَا يَمِيلُونَ عَنْهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ لِلدَّاعِي لِلْحِسَابِ، وَعَدَمِ عُدُولِهِمْ عَنْهُ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتابِهِ الكَريمِ، فَقَالَ مِنْ سُورَةِ الإِسْراءِ: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} الْآيَةَ: 52، وَقَالَ مِنْ سُورةِ (ق): {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} الآيَتَيْنِ: (41 و 42)، وَزَادَ في سُورَةِ القمرِ أَنَّهُمْ يُسْرِعُونَ إِلَى تلبيَتهمْ دَعوتَهُ، فَقَالَ: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} الآياتِ: (6 ـ ، الْإِهْطَاعُ معناهً: الْإِسْرَاعُ. إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ المباركاتِ وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الدَّاعِي فاللَّامُ هِيَ لِلْأَجْلِ، أَيْ: لَا عِوَجَ لِأَجْلِ الدَّاعِي، أَيْ: لَا يَرُوغُ الْمَدْعُوُّونَ فِي سَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الدَّاعِي بَلْ يَقْصِدُونَ مُتَّجِهِينَ إِلَى صَوْبِهِ.
وأُرِيدَ مِنَ الْمَصْدَرِ "عِوَج" الْمَنْفِيِّ هَذا نَفْيُ جِنْسِ الْعِوَجِ فِي اتِّبَاعِ الدَّاعِي، بِحَيْثُ لَا يَسْلُكُونَ غَيْرَ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، أَوْ لَا يُسْلَكُ بِهِمْ غَيْرُ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، أَوْ بِحَيْثُ يَعْلَمُونَ بَرَاءَةَ رَسُولِهِمْ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ، مِنَ الْعِوَجِ.
وَبَيْنَ قَوْلِهِ في الآيةِ: 107، السَّابقةِ: {لَا تَرى فِيها عِوَجًا}، وَقَوْلِهِ هنا في هَذِهِ الآيةِ: "لَا عِوَجَ لَهُ" ما يُسَمَّى في عِلْمِ البَدِيعِ بـ "مُرَاعَاةُ النَّظِيرِ"، فَكَمَا جَعَلَ اللهُ تَعَالى الْأَرْضَ يَوْمَئِذٍ في الآيَةِ السَّابِقَةِ غَيْرَ مُعْوَجَّةٍ، وَلَا نَاتِئَةٍ، كَذَلِكَ جَعَلَ هُنَا في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ سَيْرَ النَّاسِ عَلَيْهَا لَا عِوَجَ فِيهِ، وَلَا مُرَاوَغَةً عَنْهُ.
قولُهُ: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} وَالْخُشُوعُ: الْخُضُوعُ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ مَظْهَرٌ مِنَ الْخُشُوعِ فَمَظْهَرُ الْخُشُوعِ فِي الصَّوْتِ: الْإِسْرَارُ بِهِ، فَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا". فقدْ رَوَى الوالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قَالَ: "وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ" يُريدُ: سَكَنَتْ. "جامعُ البَيَانِ" للطَّبَريِّ: (16/214)، و "الجامِعُ لِأَحْكامِ القُرْآنِ" للقُرْطُبيِّ: (11/247)، و "تفسيرُ القرآنِ العَظيمِ" لابْنِ كثيرٍ: (3/184). وَقَالَ السُّدِّيِّ: خشَعتْ: ذَلَّتْ.
وَالجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَتَّبِعُونَ وَإِسْنَادُ الْخُشُوعِ إِلَى الْأَصْوَاتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ الْخُشُوعَ لِأَصْحَابِ الْأَصْوَاتِ أَوِ اسْتُعِيرَ الْخُشُوعُ لِانْخِفَاضِ الصَّوْتِ وَإِسْرَارِهِ، وَهَذَا الْخُشُوعُ مِنْ هَوْلِ الْمَقَامِ.
قوْلُهُ: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} أَخْفَى مَا يَكونُ مِنَ الصَّوْتِ، هُوَ هَمْسُ الأَقْدامِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (الهَمْسُ وَالرِّكْزُ وَاحِدٌ، وَهٌوَ: الصَّوْتُ الخَفِيُّ. وَيُقَالُ: هَمَسَ لِي بِكَذَا، أَيْ: أَخْفَاهُ إِلَيَّ). "مَجَازُ القُرْآنِ" لِأَبِي عُبَيْدَةَ: (2/30). وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عباسٍ أَنَّهً تَمَثَّلَ بقولِ الرَّاجِزِ:
وَهُنَّ يَمْشِيْنَ بِنَا هَمِيْسَا .................. إِنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنَلْ لَمِيسا
يَعْنِي: صَوْتَ أَخْفَافِ الإِبِلِ فِي سَيْرِهَا. وَقَالَ أَبو الهَيْثَمِ: (إِذَا مَضَغَ الرَّجُلُ الكَلامَ وَفُوهُ مُنْضَمٌّ قِيلَ: هَمَسَ، يَهْمِسُ هَمْسًا) "تَهْذيبُ اللُغَةِ" للأَزْهَرِيِّ: (4/3793). قالَ العَجَّاجُ:
إِنِّي رَأَيْتُ عَجَبًا مُذْ أَمْسَا ................. عَجَائِزًا مِثْلَ السَّعَالِي خَمْسَا
يَأْكُلْنَ مَا فِي رَحْلِهِنَّ هَمْسَا .................... لاَ تَرَكَ اللهُ لَهُنَّ ضِرْسَا
وَقالَ اللَّيْثُ بْنُ سعدٍ ـ رحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الهَمْسُ: حُسُّ الصَّوْتِ في الفَمِ مِمَّا لَا إِشْرابَ لَهُ مِنْ صَوْتِ الصَّدْرِ، وَلَا جِهارَةَ فِي المَنْطِقِ، وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ مَهْمُوسٌ فِي الفَمِ كَالسِّرِّ. "تَهْذيبُ اللُّغَةِ" لِلْأَزْهَرِيِّ: (4/3793).
والهَمُوسُ مِنْ أَسْمَاءِ الأَسَدِ؛ لِأَنَّهُ يَهْمِسُ فِي الظُّلْمَةِ، أَيْ: يَطَأُ وَطْأً خَفِيًّا, "تَهْذيبُ اللُّغَةِ" للأَزهريِّ: (4/3793). ومِنْ ذلكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ أَبي زُبَيْدٍ الطَّائيِّ:
فَيَأتُوان يُدْلِجُون ويَأْتِ يَسرِي ............... بَصِيرٌ بِالدُّجَي هَادٍ هَمُوسُ
يَعْنِي: الأَسَدَ. وَالدُلْجَةُ: سَيْرُ السَّحَرِ، مِنْ قولِهِمْ: أَدْلَجَ القَوْمُ: إِذا سَارُوا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. الدُّجُى: سَوادُ اللَّيْلِ.
وَقالَ اللهُ تَعَالى في الآيَتَيْنِ: (37 و 38)، مِنْ سُورةِ النَّبَأِ: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}. والمَعنى: خُفِّضَتْ وَخَفُتَتْ، وَسَكَنَتْ خشيَةً وخوفًا وَهَيْبَةً، وَإِجْلَالًا للهِ تَعَالى، فَلَا تَسْمَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ِإِلَّا صَوْتًا خَافِتًا خفيضًا، أَوْ لا تَسْمَعُ إِلَّا صَوْتَ وَقعِ الْأَقْدَامِ في تَوَجُّهِهَا إِلَى الْمَحْشَرِ، فإِنَّ جَلَالَ اللهِ وَالْخَشْيَةَ مِنْهُ يَصُدَّانِ عَنِ الكلامِ. والْخِطَابُ هُنَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَا تَسْمَعُ أَيُّها السَّامِعُ في ذَلِكَ اليَوْمِ إِلَّا هَمْسًا. وَالْهَمْسُ لُغَةً يَشْمَلُ مَعْنَيَيْنِ فيُطْلَقُ عَلَى خَفْضِ المُتَكَلِّمِينَ أَصْواتَهُمْ، لِما أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، في رِوايَةِ الوَالِبي عنهُ في قَولِهِ تَعَالى: "إِلَّا هَمْسًا" يَقولُ: الصَّوْت الخَفِيُّ. "جامِعُ البَيَانِ" للطَبَريِّ: (6/215)، وتفسيرُ "النُّكَتُ والعُيُونُ" للماورديِّ: (3/427)، و "الجامِعُ لِأَحْكامِ القُرْآنِ" للقُرْطُبيِّ: (11/247)، و "تَفْسيرُ القُرْآنِ العَظيمِ" لابنِ كثيرٍ: (3/184)، وَ "الدُّرُّ المَنْثُورُ في التأويلِ بالمَأْثورِ" للسُّيوطيِّ: (4/551). ورَوَى عنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قالَ فِي الآيَةِ: يَعْنِي: تَحْريكُ الشِّفاهِ بِغَيْرِ نُطْقٍ. انظُرْ: "مَعَالِمُ التَنْزيلِ" للبغويِّ: (5/295)، و "زادُ المَسيرِ في عِلْمِ التَّفْسيرِ" لابْنِ الجوزي: (5/323)، و "الدُّرُّ المَنْثُورُ" للسُّيُوطِيِّ: (4/551). وهوَ قولُ مُجاهِدٍ: (الكلام الخفي) "جامِعُ البَيَان" للطَّبرِيِّ: (16/215)، و "الكَشْفُ والبَيَانُ عَنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ" للثَّعْلَبيِّ: (3/25 أ)، وَ "مَعَالمُ التَنْزيلِ" للبَغويِّ: (5/295)، وَ "زادُ المَسيرِ في عِلْمِ التَّفْسيرِ" لابْنِ الجوزي: (5/323)، وتفسيرُ القُرْطُبِيِّ "الجامِعُ لِأَحْكامِ القَرْآنِ": (11/247).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا" قَالَ: هُوَ خَفْضُ الصَّوْتِ بالْكلَامِ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ وَلَا يُسْمَعُ.
وبناءً عَلَى ما تقدَّمَ فَإِنَّ مَعْنَى الآيَةِ: سَكَنَتِ الأَصْوَاتُ فَلَا يَجْهَرُ أَحَدٌ بِكَلامٍ، إِلَّا ما كانَ في السِّرِّ كالإِشارَةِ بِالشَّفَتَيْنِ، وَتَحْريكِ الفَمِ دونَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ أَيُّ صَوْتٍ. وَيُطْلَقُ الهُمْسُ أَيْضًا عَلَى صَوْتَ وَقْعِ الْأَقْدَامِ عَلَى أَرْضٍ فيها هَشيمٌ، كَالصَوْتِ الذي تُصْدِرُهُ أَخْفَافُ الْإِبِلِ عَلَى أَرْضٍ فِيهَا نَبَاتٌ يَابِسٌ، لِقَوْلِ الرَّاجِزُ الذي تَمَثَّلَ بِهِ بْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ تعالى عنْهُما، يَحْدُو بعيرَهُ وَهُوَ مَحْرِمٌ في الحَجِّ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا .................. إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنَلْ لَمِيسًا
وَأَكْثَرُ المُفَسِّرينَ على هَذاَ، قالُوا: يَعْنِي: صَوْتَ ثِقَلِ الأَقْدَامِ إِلَى الحَشْرِ. وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةٌ، وَسُفْيَانٌ، والحَسَنُ، والسُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم. "تَفْسيرُ القرآنِ" للصَّنْعَاني: (2/18)، وتفسيرُ "جامِعُ البَيَانِ" للطَبَرِيِّ: (16/215)، وتفسيرُ "الكَشْفُ والبَيَانُ" للثَّعلبيِّ: (3/25 أ)، وَ "تَفْسيرُ كِتابِ اللهِ العَزيزِ" للعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ: (3/53)، و "زَادُ المَسِيرِ" لابْنِ الجوزيِّ: (5/323). وَهُوَ اخْتِيارُ الفَرَّاءِ: فِي "مَعَاني القُرآنِ" لَهُ: (2/192)، والزَّجَّاجِ في "مَعاني القرآنِ وإِعْرَابُهُ" لَهُ: (3/377). وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدٍ بنِ جبيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا" قَالَا: وَطْءُ الْأَقْدَامِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا" قَالَ: أَصْواتُ أَقْدَامِهِمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ الشَّعْبِيِّ، فَمَرَّتْ عَلَيْنَا إِبِلٌ قَدْ كَانَ عَلَيْهَا جَصٌّ فَطَرَحَتْهُ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ أَخْفافِها فَقَالَ: هَذَا الهَمْسُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ أَيْضًا في الآيةِ: الهَمْسُ سِرُّ الحَدِيثِ وَصَوتُ الْأَقْدَام. واللهُ أَعلمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} يومَئذٍ: هُوَ "يومَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُضافٌ، وَ "إِذٍ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ، مَبْنِيٌّ بِسُكونٍ مُقَدَّرٍ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَة إِلَيْهِ، وَالتَّنْوينُ عِوَضٌ عَنِ الجُمْلَةِ المَحذوفَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَتَّبِعُونَ" أَوْ بَدَلٌ مِنْ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. و "يَتَّبِعُونَ" مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَ "الدَّاعِيَ" مفعولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَا عِوَجَ لَهُ} لا: نافِيَةٌ للجِنْسِ تَعْمَلُ عَمَلَ "إِنَّ"، وَ "عِوَجَ" مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ النَّصْبِ اسمُ "لا". و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "لا" المُقدَّرِ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ، والظَّاهِرُ عَوْدُ هذا الضَّميرِ عَلَى الدَّاعِي، أَيْ: لَا عِوَجَ لِدُعائِهِ بَلْ يَسْمَعُ جَمِيعَهُمْ، وَقِيلَ: هوَ عائدٌ عَلى ذَلِكَ المَصْدَرِ المَحْذوفِ، أَيْ لَا عِوَجَ لِذَلِكَ الاتِّباعِ. وقيلَ: بِأَنَّ فِي الكلامِ قَلْبًا، والتَّقْديرُ لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْهُ. وَجُمْلَةُ "لا" مِنِ اسْمِها وخَبَرِها في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ {الدَّاعِيَ}، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ: يَتَّبِعُونَهُ اتِّبَاعًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، وَالأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي "لَهُ" يَعُودُ عَلَيْهِ؛ أَيْ: لَا عِوَجَ لِدُعائِهِ، بَلْ يُسْمِعُ جَمِيعَهُمْ، فَلَا يَميلُ إِلَى أُناسٍ دُونَ أُنَاسٍ كما تقدَّمَ.
قَوْلُهُ: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} الوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "خَشَعَتِ" فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، وقدْ حُرِّكَتْ بالكَسْرِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ. و "الْأَصْوَاتُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "لِلرَّحْمَنِ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَشَعَتْ"، و "الرَّحْمَنِ" اسْمُ الجلالةِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "يَتَّبِعُونَ" عَلَى كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} الفاءُ: حرْفٌ للعَطفِ والتَّعقيبِ، وَ "لا" نافِيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا. وَ "تَسْمَعُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْ يعودُ عَلَى أَيِّ مُخَاطَبٍ آخَرَ يكونَ أَهْلًا لهَذا الخِطابِ، وَ "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، وَ "هَمْسًا" مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ "تَسْمعُ" مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "خَشَعَتِ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.