لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا
(107)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} لَا تَرَى: الرَّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، وَضَمِيرُ الخِطابُ فِي "تَرَى" لِكُلِّ مَنْ هُوَ أَهْلٌ للخِطابِ، والضَّميرُ في "فيها" عائدٌ لِلْأَرْضِ، أَوْ لِمَنَابِتِ الجِبَالِ ـ بِحَسَبِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، وَالْـ "عِوَج" ـ بِكَسْرِ العَيْنِ، هوَ مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْبَصِيرَةِ لِأَنَّ المُرَادَ هوَ ما خَفِيَ مِنَ الاعْوِجاجِ حَتَّى احْتَاجِ إِثْباتُهُ إِلَى المِسَاحَةِ الهَنْدَسِيَّةِ المُدْرَكَةِ بِالعَقْلِ، فَأُلْحِقَ بِمَا هُوَ عَقْلِيٌّ صِرْفٌ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ ذلكَ، وَيَكونُ فِي الْمَعَانِي. وَأَمَّا "الْعَوَج" ـ بِفَتْحِ العَيْنِ، فَهُوَ مَا يُدْرَكُ بالعَيْنِ، وَ فَيَكونُ فِي الْأَعْيَانِ، كَالعَوَجِ في الجِدَارِ وَالعُودِ والعَصَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وجَزَمَ عَمْرٌو بأَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ ـ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَهُوَ مَا وَاخْتَارَهُ الْمَرْزُوقِيُّ فِي (شَرْحِ الْفَصِيحِ) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمُرادِهِ.
وَ "وَلَا أَمْتًا": ولا بُرُوزًا طفيفًا، فَالْأَمْتُ: هوَ النُّتُوءُ الْيَسِير في الأَرْضِ، وغيرِها، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
فَاجْرَمَّزَتْ ثُمَّ سَارَتْ وَهِيَ لَاهِيَةٌ ........ فِي كَافِرٍ مَا بِهِ أَمْتٌ، وَلَا شَرَفٌ
اجْرَمَّزَتْ: انْقَبَضَتْ وَاجْتَمَعَ بَعْضُها إِلى بَعْضٍ، والكافِرُ هُنَا: اللَّيْلُ، أَوِ المَطَرُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ، والأَمْتُ: النُّتُوءُ اليَسيرُ في الأَرضِ، وَالشَّرَفُ: هُوَ المُرْتَفِعُ العَالِي مِنْهَا.
وَمِنْ ذلكَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي "الْوَقْفُ والابتداءِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا"، مَا الأَمْتُ؟. قَالَ: الشَّيْءُ الشَّاخِصُ مِنَ الأَرْضِ، قَالَ فِيهِ كَعْبُ ابْنُ زُهَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ:
فَأَبْصَرَتْ لَمْحَةً مِنْ رَأْسِ عِكْرِشَةٍ ......... فِي كَافِرٍ مَا بِهِ أَمْتٌ وَلَا عِوَجٌ
العِكْرِشَةُ: الأَرْنَبَةُ الضَّخْمَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ وَبَرِهَا والْتِفافِهِ، شُبِّهَتْ بِنَبَاتِ الْعِكْرِشِ لِالْتِفَافِه في مَنَابِتِهِ. وَالْكَافِرُ هُنَا هُوَ اللَّيْلُ أَيْضًا. وَيجوزُ كذلكَ أَنْ يكونَ الْمَطَرُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَيْنَ مِنْ رُؤْيَةِ الِارْتِفَاعِ فِي الْأَرْضِ وَالِانْحِدَارِ فيها.
وَرَوَى ابْنُ أَبي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ المُرَادَ بالعِوَجِ: الأَوْدِيَةُ، وَبِالْأَمَتِ: الرَّوابي.
وَقَالَ أَيْضًا مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: العِوَجُ: الانْخِفاضُ، وَالأَمْتُ: الارْتِفاعُ، وهوَ أَيضًا مَذْهَبُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الأَمْتُ: النَّبْكُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: العِوَجُ الارْتِفاعُ، والأَمْتُ الْمَبْسُوطُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي بِالْأَمْتِ حُفَرًا.
ورَوَى العَوْفي أَيْضًا عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ العِوَجَ:
المَيْلُ، وَالأَمْتَ: الأَثَرُ مِثْلُ الشِّرَاكِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ.
وَقريبٌ منهُ قولُ أَبُي عُبَيْدَةَ، قالَ: الأَمْتُ: ارْتِفاعٌ وَهُبوطٌ، يُقَالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتَّى مَا تَرَكَ فِيهِ أَمَتًا، ومَلأَ سِقاءَهُ حَتَّى لَمْ يَدَعْ فِيهِ أَمْتًا. وَأَنْشَدَ بيتَ يَزيدِ بْنِ شَيْبَةَ النُّمَيْرِيِّ:
لَهَا صُوْرَةٌ كَالشَّمْس أَشْرَقَ ضَوؤهَا ......... لُبَاخِية هَيْفَاء لَيسَ بِهَا أَمْتُ
"مَجازُ القُرْآنِ" لَهُ: (2/29). والباخيَةُ: المُمْتَلِئَةُ الخَلْقِ.
وقالَ رضِيَ اللهُ عنْهُ، في رِوَايَةِ الوالِبي: "لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا" يَقولُ: وَادِيًا، و "وَلَا أَمْتًا" يَقُولُ: رَابِيَةً. "الدُّرُّ المَنْثُورُ" للسُيوطِيِّ: (4/550).
وقالَ في روايةِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ: لَيْسَ فيها مُنْخَفَضٌ وَلَا مُرْتَفع). "الدُّرُّ المَنْثُورُ" (4/550). وَقالَ في رِوَايَةِ عَطَاءٍ: "وَلَا أَمْتًا" يُريدُ نَتُؤًا.
وَقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا"، أَيْ: صَدْعًا، و "وَلَا أَمْتًا"، أَيْ وَلَا أَكَمَةً. "الدُّرُّ المَنٍثور" (4/550). وهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ المتقدِّمِ، سَوَاءً بسواءٍ.
وَقالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا" وَهِيَ الأَوْدِيَةُ، و "وَلَا أَمْتًا" يَعْنِي النَّبَاكَ. وَقالَ مُجاهِدٌ ـ رضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ: لَا انْخِفَاضَ وَلا ارتفاعَ.
وَقالَ السُّدِّيُّ: العَوَجُ: الطَّريقُ فِي الجِبالِ، وَالأَمْتُ: الرَّوابي.
ورَوَى أَبُو بَكْرٍ الهُذَليِّ عَنَ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أنَّهُ قالَ: العِوَجُ: مَا انْخَفَضَ مِنَ الأَرضِ، وَالأَمْتُ: مَا نَشَزَ مِنَ الرَّوَابِي.
وَقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الأَمْتُ: أَنْ يُصَبَّ فِي السِّقاءِ مَاءٌ فَلَا يَمْتَلِئُ، فَيَنْثَنِي، فَذَلِكَ الشَّيْءُ هوَ الأَمْتُ. وتَقولُ للقِرْبَةِ إِذَا امْتَلَأَتْ: لَاَ أَمْتَ فيها.
وقال الفَرَّاءُ: الأَمْتُ مَوْضِعُ النَّبْكِ مِنَ الأَرْضِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا، وسَمِعْتُ العَرَبَ يَقُولونَ: مَلأَ القِرْبَةَ مَلْأً لَا أَمْتَ فِيهِ). "مَعَاني القُرْآنِ" لهُ: (2/191). وَالنَّبْكُ: الأَرْضُ فِيهَا صُعُودٌ وَهُبُوطٌ، وَالجَمْعُ "نَبَكَ" بالتَّحْريكِ. وَقالَ الأَصْمَعِيُّ: النَبْكُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الأَرْضِ، وَقِيلَ: كُلَّ رَابِيَةِ مِنْ رَوابي الرِّمَالِ كانَتْ مُسْلَكَةَ الرَّأْسِ وَمُحَدَّدَتْهُ. وَقالَ ابْنُ الأَعْرابِيِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الأَمْتُ: وَهْدَةٌ بَين نُشُوزٍ). وَقِيلَ أَيْضًا: بِأَنَّ العِوَجَ: هوَ الصَّدْعُ في الأَرْضِ (الانْشِقاقُ)، وَالأَمْتَ: هُوَ الأَكَمَةُ.
هَذا وَالآيَةُ هِيَ اسْتِئْنافٌ بيانيٌّ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ في الآيةِ التي قبلَها مِنَ "القَاعِ الصَّفْصَفِ" أَوْ هِيَ حَالٌ أُخْرَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ صِفَةٌ لِـ "قَاعٍ".
قوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} لَا: نَافِيَةٌ. و "تَرَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْ عَلَى مَنْ هوَ أهلٌ للخِطابِ. و "فِيهَا"، في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَرَى"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "عِوَجًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "وَلَا أَمْتًا" الواوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، و "لا" نافيةٌ كَسَابِقَتِهَا مَعْطوفةٌ عليها، و "أَمْتًا" مَعْطوفٌ عَلَى "عِوَجًا" على كونِهِ منصوبٌ بالمفعوليَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها حَالًا ثالِثَةً أَوْ أُولَى مِنَ الجِبَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ صِفَةً لِلْحَالِ المُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ "قاعًا" أَوْ صِفَةً لِلْمَفْعُولِ الثاني، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.