فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا
(106)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} أَيْ: فَيَتْرُكُ الأَرْضَ، أَوْ فيذَرُ مَنَابِتَ الجِبَالِ قاعًا، والقاعُ ما كانَ مُنْكَشِفًا مُسْتويًا مِنَ الأَرْضِ لا نباتَ فيهِ، ولا بِنَاءَ عَلَيْهِ، ومِنْهُ قَوْلُ ضِرارِ بْنِ الخَطَّابِ:
لَتَكُوْنَنَّ بالبطاحِ قُرَيْشٌ .................... فَقْعَةَ القاعِ في أَكُفِّ الإِماءِ
ويُجْمَعُ القَاعِ عَلَى قِيْعان، وَأَقْواعٍ، وأَقْوُعٍ.
والصَّفْصَفُ: الأَرْضُ المُسْتَوِيَةُ المَلْساءُ. الَّتِي لَا بِنَاءَ فِيهِا، وَلَا نَبَاتَ، فَهِي فِي اسْتِوَائِهِا عَلَى صَفٍّ وَاحِدٍ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَكَمْ دُونَ بَيْتِكَ مِنْ صَفْصَفٍ ................... وَدَكْدَاكِ رَمْلٍ وَأَعْقَادِهَا
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "فَيَذَرُهَا قاعًا" قَالَ: مُسْتَوِيًا، و "صَفْصَفًا" قَالَ: لَا نَبَات فِيهِ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "فَيَذَرُهَا قاعًا صَفْصَفًا" قَالَ: "القاعُ" الأَمْلَسُ. و "الصَّفْصَفُ" المُسْتَوِي.
قَالَ ابنُ الأَزْرَقِ: وَهَلَ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَمَلْمُومَةٌ شَهْبَاءُ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ...... شَمَارِيخَ مِنْ رَضْوَى إِذًا عَادَ صَفْصَفًا
قولُهُ هُنَا "الشَهْبَاءُ": الأَرْضُ المُغَطَّاةُ بالثُّلوجِ. وَالشَّمَاريخُ: جَمْعُ شُمْرُوخٍ، وَشُمْراخٍ أَيْضًا، وَهُوَ رَأْسُ الجَبَلِ، وَأَيْضًا: غُصْنٌ دَقيقٌ رَخْصٌ يَنبُتُ في أَعلَى الغُصنِ الغَلِيظِ، خَرَجَ في سَنَتِهِ رَخْصًا غَضًا. وَ "رَضْوَى": جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدينَةِ قُرْبَ "يَنْبُع".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالى: "قاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا" قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، يَقُولُ: هِيَ الأَرْضُ المَلْساءُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رَابِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ وَلَا انْخِفاضٌ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قاعًا صَفْصَفًا" قَالَ: مُسْتَوِيًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "صَفْصَفًا" قَالَ: القَاعُ: الأَرْضُ، وَالصَّفْصَفُ: المُسْتَوِيَةُ.
قولُهُ تَعَالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} فَيَذَرُهَا: الفاءُ: للعَطْفِ والتَّعْقيبِ، وَ "يَذَرُهَا" فِعْلٌ مُضارِعُ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى اللهِ تَعَالى، وَ "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفعوليَّةِ، وَهَذا الضَّميرِ عائدٌ إِلى الأَرْضِ وإِنْ لمْ يجرِ لها ذِكْرٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} الآيةَ: 16، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ فاطِر: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة} الآيةَ: 45، فَالضَّمِيرُ فِيهِمَا رَاجِعٌ إِلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، ويجوزُ في هَذا الضَّميرِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنَابِتِ الجِبَالِ، الَّتِي هِيَ مَرَاكِزُهَا وَمَقَارُّهَا لِأَنَّهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ ذِكْرِ الْجِبَالِ. وَالْمَعْنَى: فَيَذَرُ مَوَاضِعَهَا الَّتِي كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ قَاعًا صَفْصَفًا. وَذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، والتَّقْديرُ: فَيَذَرُ مَرَاكِزَهَا ومَقَارَّهَا. وَ "قَاعًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنَ الضَّميرِ المَنْصُوبِ، عَلَى أَنَّ "يذَرُها" بِمَعْنَى "يُخَلِّيها". أَوْ هوَ مَفْعولٌ بِهِ ثانٍ بِتَضْمينِ "يَذَرُ" مَعْنَى بِمَعْنَى "يَتْرُكُ" التَصْيِيرِيَّةِ. وَ "صَفْصَفًا" حَالٌ ثانِيَةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ المَفْعُولِ الثاني، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ صِفَةً لَهُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قُلْ" عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "يَنْسِفُهَا".