يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا
(103)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} يَتَخافَونَ: يَتَسارُّونَ فيما بينَهُم لِشِدَّةِ الرُّعْبِ الذي مَلَأَ قلوبهُمْ، وهَيْمَنَ عَلَى مَشاعِرِهِم، والتَّخافتُ: السِّرارُ، يُقَالُ: خَفَتَ يَخْفِتُ وَخَافَتَ يُخافتُ مُخَافَتَةً. قَالَ عبدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَغيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرينَ: "يَتَخَافَتُونَ" يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ. أَيْ: يَتَسَاءَلُونِ فيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ في الدُّنْيا، وَذَلِكَ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا مِنْ أَهْوَالٍ، فقَدْ نَسُوا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ في الدُّنْيا. أَوْ: لِذَهابِ طُولِ لَبْثِهِمْ فِي الحياةِ الدُّنْيَا. وَقيلَ: نَسُوا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ في قُبُورِهِم وَحَيَاتِهِمُ البَرْزَخِيَّةِ، لِذَهابِ طُولِ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ عنْهُمْ لِشِدَّةِ مَا يَرَوْنَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتي دَهَمَتْهُمْ، فَكَأَنَّما كانُوا نِيَامًا، فَانْتَبَهُوا، فَأَسَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بعْضٍ بِصَوْتٍ خافِتٍ، رَهْبَةً وَخُشُوعًا، لِهَولِ المَوْقِفِ، وَالخَوْفِ مِنَ المَصِيرِ، وَالخَشْيَةِ ممَّا يَنْتَظِرُهُمْ وَمَا هُمْ قادِمونَ عَلَيْهِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى بعدَ ذلكَ فِي الآيةِ: 108، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}.
قولُهُ: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ، يَعْنُونَ بِهِ طولَ مُدَّةِ لَبْثِهم في القُبُورِ مَيِّتينَ. وَهُوَ بَيَانٌ لِقوْلِهِ: "يَتَخافَتُونَ"، فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا، ثمَّ صَارُوا رُفَاتًا، ثمَّ أَحْيَاهُمُ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى. فَاسْتَيْقَنُوا مِنْ ضَلَالِهُمْ إِذْ أَنْكَرُوا الْحَشْرَ مِنْ قبلُ، لَمَّا كانُوا أَحْياءً في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ لِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ المَوْتِ وفناءِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةً منْهُمْ فِي الْمُكَابَرَةِ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا فِي الْقُبُورِ إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ أَوْ عشَرةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَتَحَوَّلُوا رُفَاتًا، وَهَذَا لِمَا رَسَبَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنِ اسْتِحَالَةِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الفَنَاءِ وَتَفَرُّقِ الْأَوْصَالِ، فَزَعَمُوا أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ. وهوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ (المُؤْمِنُونَ): {قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فِاسْأَلِ العادِّينَ} الْآيَتَانِ: (112 و 113)، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: 55، مِنْ سُورةِ الرُّوم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ}.
وَقدْ قالُوا هَذَا عَلَى سبيلِ التَّقْليلِ، وَلَيْسَ عَلى سَبِيلِ تَحْديدِ مُدَّةِ اللَّبْثِ. وَقَالَ الحَسَنُ البَصْريُّ، وَقَتَادَةُ ـ رضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: بِأَنَّهُمْ عَنَوْا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيا.
وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ وهُمْ في القُبورِ حِينَ بُعِثوا. فَقَدْ رَوَى عَطاءٌ وَأَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُ قالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ بَعْدَ المَوْتِ إِلَّا عَشْرًا. يُريدُ مِنَ النَّفْخَةِ الأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُكَفُّ العَذَابُ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَإِذا كانَتِ النَّفْخَةُ الثانِيَةُ بُعِثُوا)، وَذَلِكَ قَوْلُهُ في الآيةِ: 52، مِنْ سُورَةِ يَس: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}. وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَيْضًا: أَنَّهُم قَالُوا ذَلِكَ فيما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ حِينَئِذٍ، فَيَسْتَقِلُّونَ مُدَّةَ لَبْثِهِمْ لِهَوْلِ مَا يُعَايِنُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِلَّا عَشْرًا" اللَّيَالِي، فَحَذْفُ التاءِ مِنَ العَدَدِ قِياسٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرادَ الأَيَّامُ فَيُسْأَلَ عِنْدَها: لِمَ حُذِفَتِ التَّاءُ؟. فيُقالَ: إِنْ لِمْ يُذْكَرِ المُمَيِّزُ فِي عَدَدِ المُذَكَّرِ جَازَتِ التَّاءُ وَعَدَمُهَا. فقدْ سُمِعَ مِنْ كلامِ العَرَبِ: (صُمْنا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا) والمَصُوْمُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الأَيَّامُ دُونَ اللَّيَالِي. وقد جاءَ في الحَديثِ الشَّريف قولُهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ)). أَخرجهُ الطبرانيُّ في الأوسطِ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، وابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ، وأُبُو عُوانةَ في مُسْتَخْرَجِهِ، وعبدُ اللهِ ابْنُ وهْبٍ في موطَّئِهِ، مِنْ حديثِ أَبي أَيُّوبٍ الأنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَهُ الإمامُ البزَّارُ في مُسْنَدِهِ عَنْ ثوبانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وغيرُهُم. وَقد حَسَّنَ الحَذْفَ هُنَا كَوْنُهُ فاصِلَةً ورَأْسَ آيَةٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} يَتَخَافَتُونَ: فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَماعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "بَيْنَهُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَتَخَافَتُونَ"، وَهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنَ جمْلَةِ قَوْلِهِ {المُجْرِمِينَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، وَيجوزُ أَنْ تَكونَ جُملةً مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئنافًا بَيانِيًا مَسُوقَةً لِبَيَانِ حَالِهِمْ مِنَ الهَلَعِ والخوفِ الشَّديدِ والشُّؤْمِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ.
قولُهُ: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} إِنْ: نَافِيَةٌ بمعنى "ما". و "لَبِثْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعليَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ حَصْرٍ وَاسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ. و "عَشْرًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "لَبِثْتُمْ"، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ، وَاقِعٍ حالًا مِنْ فَاعِلِ "يَتَخَافَتُونَ"؛ أَيْ: يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ، حَالَ كَوْنِهِمْ قَائِلِينَ: "إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا".