خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا
(101)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {خَالِدِينَ فِيهِ} خالدينَ: مَاكِثِينَ غَيْرَ مُحَوَّلينُ عنْهُ، ولا مُتَحَوِّلينَ. والخُلودُ في اللُّغَةِ، مِنْ "خَلَدَ"، "يَخْلُدُ"، "خُلْدًا وَخُلودًا، وقد سُميَّت الدَّارُ الآخِرَةُ بـ "الخُلْدِ" لِبَقَاءِ أَهْلِهَا فِيهَا، وَ "الخُلْدُ" أَوِ "الخُلودُ" هُوَ الدَّوامُ والبَقَاءُ في دارٍ أَوْ مَكَانٍ لا يَتْرُكُهُ، ولا يُغَادِرُهُ، وَلا يُبَارِحُهُ أَبَدًا كَمَا جَاءِ في "صِحَاحِ الجَوْهَرِيِّ"، و "لِسانِ العَرَبِ" وَغَيْرِهِما. وَأَخْلَدَهُ اللهُ وَخَلَّدَهُ تَخْلِيدًا. وَقِيلَ لِلصُّخُورِ الثلاثةِ أَثَافِيِّ القِدْرِ: خَوالِدُ، لِبَقَائِهَا بَعْدَ دُرُوسِ الأَطْلالِ. قَالَ الشَّاعِرُ المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ متغزِّلًا بِمَنْ يُحِبُّ فَبَدَأَ بذكْرِ الأَطْلالِ كعادةِ الشُعَرَاءِ في العَصْرِ الجاهِليِّ:
ذَكَرَ الرَّبابَ، وذِكْرُهَا سُقْمُ ................. فَصَبَا ولَيْسَ ِلمَنْ صَبا حِلْمُ
وَإِذا أَلَمَّ خَيالُها طُرِفَتْ ...................... عَيني فماءُ شُؤُونِها سَجْمُ
كاللُّؤلُؤِ المسْجُورِ أُغْفِلَ في ................ سِلْكِ النِّظَام فَخانهُ النَّظْمُ
وَأَرَى لَهَا دَارًا بِأَغْدِرَةِ السِّيـ .................... ـدَانِ لَمْ يَدْرُس لَهَا رَسْمُ
إِلَّا رَمادًا هامِدًا دَفَعَتْ ....................... عَنْهُ الرِّياحَ خَوَالِدٌ سُحْمُ
فالخَوَالِدُ السُّحْمُ هيَ الأَثافي أَوِ "الأثافيُّ" الثَلاثُ السَّوْداءُ مِنْ كثرةِ الدُّخانِ التي كانَ يُوضَعُ عَلَيْهَا القدْرُ. وَيُقَالُ أَيْضًا للجِبَال: خَوَالدٌ لِثَبَاتِها في المكانِ وَطُولِ بَقائِها. والخُلْدُ أَيْضًا: ضَرْبٌ مِنَ الجُرْذَانِ أَعْمَى. وَأَخْلَدْتُ إِلَى فَلَان، أَيْ: رَكَنْتُ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ}. وَأَخْلَدَ بِالمَكانِ: أَقَامَ فِيهِ ولمْ يَبْرَحْهُ. وأَخْلَدَ بِصَاحِبِهِ: لَزِمَهُ ولمْ يَتَرُكْهُ. وَيقالُ فلانٌ رَجُلٌ مُخْلِدٌ: إِذَا أَسَنَّ ولم يَشِبْ. والخَلَدُ: الرُّوْعُ وَالبَالُ والقلْبُ، الَّذي هوَ سِرُّهُ ومكانُ حديثِ النَّفْسِ مِنْهُ. ومِنْهُ يُقَالُ: وَقَعَ ذَلِكَ الأَمْرُ فِي خَلَدِي: أَيْ في قَلْبِي ورُوعي وسِرِّي.
وَ "فِيهِ" أَيْ: في "الوِزْرِ" الذي حَمَلوهُ، وهوَ "الإثمُ"، أَوْ هُوَ الحِمْلُ الثَّقِيلُ وَالعُقوبَةُ الشَّديدةُ، وَالعَذَابُ الأَلِيمُ في نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى مَا ارْتَكَبُوا مِنْ "إِثْم" عَظيمٍ حِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الإيمانِ بِاللهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، وَطاعَتِهِ، ودوامِ ذِكْرِهِ، أَوْ حينَ أَعَرَضُوا عِنْ كِتَابِهِ الكَريمِ، فلمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، ويَعمَلُوا بما فيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بيانُهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ "100" السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبارَكَةِ.
قولُهُ: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} أَيْ: بِئْسَ الْحِمْلُ حَمَلُوهُ يَوْمَ القِيامَةِ. فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي رِوَايَةِ الوَالِبِيِّ عَنْهُ، قَوْلُهُ: "وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا" يَقُولُ: بِئْسَ مَا حَمَلُوا.
وَقاَلَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ، يُريدُ: "بِئْسَ حِمْلًا يَوَمَ القِيَامَةِ" يُريدُ: سُوءَ العَذَابِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا" قَالَ: لَيْسَ هِيَ "وَسَاءَ لهم" مَوْصُولَة يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ، فَإنَّكَ إِنْ وَصَلْتَ لَمْ تُفْهَمْ، وَلَيْسَ بِهَا خَفَاء سَاءَ لَهُمْ حِمْلًا. "خَالِدين فِيهِ وَساءَ لَهُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا" قَالَ: حُمِّلَ السُّوءَ وبُوِّئَ صَاحِبَهُ النَّارَ. قَالَ: وَإِنَّمَا هِيَ "وَسَاءَ لَهُم" مَقْطُوعَةٌ، وساءَ بعْدَهَا لَهُمْ.
وَقالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: بِئْس مَا حَمَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ المَآثِمِ كُفْرًا بالقُرْآنِ.
وقالَ الزَّجَّاجُ، أَبُو إِسْحَاقٍ: المَعْنَى: بِئْسَ الوِزْرُ لَهُمْ حِمْلًا يَوْمَ القيامَةِ، وَحِمْلًا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. (معاني القَرْآنِ وإعرابُهُ" لأَبي إسْحاقٍ الزَّجَّاجِ ـ رَحِمَهٌ اللهُ تَعَالَى: (3/376).
والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذوفٌ، أَيْ: ساءَ حِمْلًا وِزْرُهُمْ. وَاللَّامُ للبَيَانِ كَمَا فِي قولِهِ مِنْ سورةِ يوسُفَ ـ عليهِ السَّلامُ: {هَيْتَ لَكَ} الآيةَ: 23، فَكَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: "سَاءَ" قِيلَ لِمَنْ يُقَالُ هَذَا؟. فَأُجِيبَ: لَهُمْ.
قولُهُ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهِ} خَالِدِينَ: منصوبٌ على الحَالِ مِنْ فَاعِلِ {يَحْمِلُ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قبلَها العائدِ عَلى {مَنْ} الشَّرْطِيَّةِ مُرَاعاةً لِمَعْنَاهَا بَعْدَ مُراعاةِ لَفْظِهِا، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. و "فِيهِ" في: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "خَالِدِينَ"، والهاءُ: ضميرٌ يَعُودُ لـ {وِزْرًا} مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. والمُرَادُ هوَ العِقَابُ المُتَسَبِّبِ عَنِ الوِزْرِ، وَهُوَ الذَّنْبُ فَأُقيمَ السَّبَبُ مُقامَ المُسَبَّبِ.
قوْلُهُ: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} وَسَاءَ: الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "ساءَ" فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ أَفْعَالِ الذَّمِّ، مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوازًا، تَقْديرُهُ: (هُوَ) يَعُودُ عَلى المُبْهَمِ الذي يُفَسَّرُهُ التَمْيِيزُ المُتَأَخِّرِ عَنْهُ لَفْظًا وَرُتْبَةً. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّق ٌبِالْقَوْلِ المَقَدَّرِ؛ أَيْ: يُقَالُ: هَذَهِ اللَّامُ في حَقَّهمْ لَا مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَاءَ"، وَقِيلَ: هِيَ كَاللَّامِ فِي "هَيْتَ لَكَ"؛ أَيْ: لِمُجَرَّدِ البَيَانِ، كما تقدَّمَ بيانُهُ في مبحثِ التفسيرِ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "يَوْمَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَاءَ"، وهوَ مُضافٌ، وَ "الْقِيَامَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "حِمْلًا" منصوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ محولٌ عنْ فاعِلِ "سَاءَ"، والجُمْلَةُ إِنْشَائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وقيلَ: هِيَ حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ وَمَسُوئينَ بِهِ. فَـ "سَاءَ" هُنَا هُوَ أَحَدُ أَفْعَالِ الذَّمِّ مِثْلَ (بِئْسَ) كَمَا تَقَدَّمَ، وَفَاعِلُ "سَاءَ" ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ التَّمْيِيزُ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ "حِمْلًا".