مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا
(100)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أَرْجَعَ بَعْضُ المُفَسِّرينَ الضَّميرَ هُنَا إِلَى الحَقِّ ـ تَبَارَكَ وتعالى، وقالَ آخَرُونَ هوَ للقُرْآنِ الكَريمِ، والإعْرَاضُ الإدبارُ والإِدْبارُ عَنِ الشَّيْءِ: وَقِلَّةُ الاهتمامِ بِهِ وَالاكْتِراثِ. أَيْ: مَنْ أَدْبَرَ عَنِ القُرْآنِ العَظيمِ، وَجَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَصَدَّ عَنْهُ، فَلَمْ يَعْتَقِدْ مَا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنَ الأَوَامِرِ، ولَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنَ النَّوَاهِي والزَّواجِرْ، ولَمْ يُحِلَّ مَا أَحَلَ اللهُ فِيهِ، وَلمْ يُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ في جميعِ مَجالاتِ الحَيَاتِ وشِعابِها، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بتَعَالِيمِهِ، وَلَا تَحَلَّى بِمَا فِيهِ مِنَ الآدَابِ وَالْمَكَارِمِ، وَلمْ يَعْتَبِرْ بِمَا فِيهِ مِنَ وَالآياتِ والْقَصَصِ والعِبَرِ وَالْأَمْثَالِ، ولمْ يتَّعِظْ بمواعِظِهِ، وَأَهْمَلَهُ فَلمْ يَتَعَبَّدِ اللهَ بِهِ، وَلَمْ يَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ بِتَلَاوَتِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَأَطرافَ النَّهَارِ.
قولُهُ: {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} وِزْرًا: أَيْ إِثْمًا عَظِيمًا. قَالَهُ أَهْلُ المَعَانِي. وَالوِزْرُ في اللُّغَةِ: هُوَ الحِمْلُ الثَّقِيلُ الفادِحُ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا"، قَالَ: إِثْمًا. أَوِ هُوَ العُقوبةُ الثَّقِيلَةُ عَلَى الإثْمِ لِأَنَّهَا جَزَاؤُهُ الْبَاهِظُ. فَقَدْ سَمَّاهَا بالوِزْرِ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْحِمْلِ الَّذِي يَنْقُضُ ظَهْرَ حَامِلِهِ، وَيُلْقِي عَلَيْهِ بِوِزْرِهِ. وَجَعْلُهُ مَحْمُولًا هوَ تَمْثِيل لِمُلَاقَاةِ العَنَتِ والضِّيقِ والْمَشَقَّةِ مِنْ جَرَّاءِ الْإِثْمِ، أَيْ مِنَ الْعِقَابِ عَنْهُ. فَهُنَا مُضَافٌ مُقَدَّرٌ وَقَرِينَتُهُ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ {خَالِدِينَ فِيهِ}.
قولُهُ تَعَالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} مَنْ: اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَواب، أَوْ هُمَا معًا، و "أَعْرَضَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ في محل الجزم بـِ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَفَاعِلُهُ: ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى "مَنْ". وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ "مَنْ" مَوْصُولَةً، وَالجُمْلَةُ الخَبَرِيَّةُ الشَّبِيهَةُ بِهَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "ذِكْرًا".
قَوْلُهُ: {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ لِكَوْنِ الجَوَابِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً. و "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوْكيدِ، وَالهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، اسْمُهَا في مَحَلِّ النَّصْبِ. وَ "يَحْمِلُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". وَ "يَوْمَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَحْمِلُ"، وَهوَ مُضافٌ، وَ "الْقِيَامَةِ" مجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "وِزْرًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وجُملَةُ "يَحْمِلُ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "ذِكْرًا"؛ والتقْديرُ: وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مُنْطَوِيًا مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ القَصَصِ.