كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} هُوَ اسْتِئْنافٌ خُوطِبَ بِهِ نَبِيُّنا مُجَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيهِ وَعْدٌ جَمِيلٌ بِأَنْ يُنَزِّلَ عليْهِ كالَّذي تقدَّمَ ذِكْرُهُ هنا مِنْ أَخْبارِ الأُمَمِ السَّابقَةِ. أَيْ: وَكَمَا قَصَصْنا عَلَيْكَ ما مَضَى مِنْ قِصَّةَ نَبِيِّنا مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ والسَّامِريِّ، نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَخْبَارِ سَائِرِ الشُّعوبِ الْأُمَمِ وَأَحْوَالِهِمْ. وَذَلِكَ رَفعًا لِشَأْنِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَإِضافَةً إِلى مُعْجِزَاتِهِ، وتثبيتًا لقَدَمِهِ، وَكَأَنَّ نَبِيَّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مُواساةٍ وَتَثْبيتٍ؛ لِأَنَّهُ سَيَتَنَاوَلُ كُلَّ أَحْداثِ الحَيَاةِ الجِسامِ، وأَعْبَاءِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ ـ تَعَالَى، وَسَيَتَعَرَّض لِأَهوالٍ تَشِيبُ لهَا رُؤوسُ الولدانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهَ مِنْ سُورةِ البقرةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالذينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ} الآيةَ: 214. وقالَ فِي الآيَةِ 120، مِنْ سُورةِ: هُودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. كَمَا كانَ سَرْدُ هَذِهِ القَصَصِ تَشْجيعًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى الإِكْثُارِ مِنَ التَفَكُّرِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَاسْتِبْصَارِهم واعْتِبَارِهم بِما مَضَى مِنْ قَصَصِ الأَوَّلينَ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ذكَرَ اللهُ لَهُ قِصَّةَ نَبِيِّهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ فِرْعَوْنَ أَوَّلًا، ثُمَّ مَعَ السَّامِرِيِّ ثَانِيًا.
قولُهُ: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} المُرادُ بالذِّكْرِ هُنَا: هُوَ الْقُرْآنُ الكَريمُ، فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا" قَالَ: الْقُرْآن. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْويلَ مَا جَاءَ فِي الآيَةِ: 6، مِنْ سُورةِ الحِجْرِ، قالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}، وَقَالَ مِنْ سُورةِ الأَنْبِياءِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} الآيةَ: 2، ثُمَّ قالَ فِي الآيَةِ: 50، مِنْها: {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}، وَقالَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَراءَ: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} الآيةَ: 5، قالَ فِي أَوَّلِ سُورةِ (ص): {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}، الآيَةَ 1، وقالَ مِنْ سُورةِ الزُّخْرُفِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون} الآية: 44. كَمَا سَمَّى كُلَّ كُتُبِهِ ذِكْرًا فَقال تَعَالَى في الآيةِ: 43، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وقالَ في الآية: 124، مِنْ هَذِهِ السَّورةِ المُبَارَكَةِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، وَ "الذِّكْرُ" يَقَعُ عَلى القُرْآنِ الكَريمِ وَعَلَى سائرِ الكُتُبِ الَّتي أَنزلَها اللهُ تَعَالَى عَلَى أَنْبِيائِهِ المُرْسَلِينَ ـ صَلَواتُ اللهِ وسلامُهُ وتحيَتُهُ وبركاتُهُ عليهمْ أَجْمَعِينَ. وَقدْ ذَكَرَ العُلَماءُ وُجُوهًا فِي تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذِّكْرِ، مِنْها:
أَوَّلًا ـ أَنَّهُ كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ في حَياتِهِمْ وبعدَ مَمَاتِهِم.
ثانيًا ـ لأَنَّ فيهِ تَذْكِيرٌ للغَافِلِينَ، وَعِبَرٌ وَمَوَاعِظُ للمُعْتَبِرِينَ.
ثَالِثًا: أَنَّهُ يَذْكُرُ أَنْوَاعَ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبادِهِ، وآلَائِهِ فَي خلْقِهِ، وآياتِهِ في كونِهِ.
رابِعًا: أَنَّ فِيهِ الذِّكْرُ وَالشَّرَفُ لَلنَّبيِّ ـ صَلَواتُ اللهِ وسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلِقَوْمِهِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالى في الآيَةِ: 44، مِنْ سُورةِ الزُّخْرُفِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون}.
قولُهُ تَعَالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} كَذَلِكَ: الْكَافُ: حرْفٌ للجَرِّ والتَشْبيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. والمعنى: كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسَى "كَذلِكَ" نَقُصُّ عَلَيْكَ قَصَصًا مِنْ أَخْبَارِ مَا قَدْ سَبَقَ، لِيَكُونَ تَسْلِيَةً لَكَ، وَلِيَدُلَّ عَلَى صِدْقِكَ، أَوْ هوَ حالٌ مِنْ ضَمِيرِ ذَلِكَ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ. وَ "ذا" اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، واللامُ للبُعْدِ، والكافُ الثانيَّةُ للخِطَابِ. وَ "نَقُصُّ" فِعْلٌ مَاضٍ مرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى "اللهُ" ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. و "عَلَيْكَ" عَلَى: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَقُصُّ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ مَحْذوفٍ هوَ مَفَعُولٌ بِهِ لـ "نَقُصُّ" والتقديرُ: نقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأً كائِنًا مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، و "أَنْبَاءِ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي"، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقِيقِ. و "سَبَقَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الموْصولِ "مَا" وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، أَوْ حاليَّةٌ. و "قَدْ" للتَحْقِيقِ. و "آتَيْنَاكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "مِنْ" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "ذِكْرًا". و "لَدُنَّا" اسْمٌ مَبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلٍّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، مُضافُ، و "نا" ضميرُ المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. و "ذِكْرًا" مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ "آتَيْنَاكَ" منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فَاعِلِ "نَقُصُّ" أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.