إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا
(98)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إِعْرَاضٌ عَنْ خِطَابِ السَّامِرِيِّ، والْتِفَاتٌ إِلَى خِطَابِ الْأُمَّةِ، لِتَعْلِيمِهِمْ صِفَاتِ الْإِلَهِ الْحَقِّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَذكَرَ مِنْ هَذِهِ الصِفاتِ المَجيدةِ صِفَةَ الْوَحْدَانِيَّةِ بِحَصْرِ الأُلوهَةِ في ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ، وهوَ المعنى المُسْتَفادُ مِنْ أَداةِ الحَصْرِ "إِنَّما" ثمَّ نَفَى هَذِهِ الصِّفَةَ عنْ غَيْرِهِ ـ سُبْحانَهُ، بِـ "لا" النَّافِيَةِ، وأَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ بِـ "إِلَّا" وبِالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ "هُوَ".
ويَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكونَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: وَإِلَهُكُمُ الذي يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ هُوَ اللهُ ولَيْسَ لِلْعَجْلِ الَّذي صَنَعَهُ لَكُمُ السَّامِريُّ.
قَوْلُهُ: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةً ثانِيَةً مِنْ صِفَاتِهِ العَظِيمةِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، وَجَلَّتْ صفاتُهُ، وهيَ صفَةُ العلْمِ، وأَنَّ عِلْمَهُ ـ تَعَالَى، عُامٌّ شامِلٌ، لا يَحُدُّهُ شَيْءٌ، ولا يَحْجُبُ شَيْءٌ عَنْهُ شَيْئًا أَبَدًا، فَلَمْ يَضِقْ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا يَقْصُرُ عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ما ظَهَرَ وَلا مَا خَفِيَ مِنْ الْأَشْيَاءِ كُلِّها البتَّةَ.
فَإِنَّ لَفْظَ "كُلِّ" مُفِيدٌ لِلْعُمُومِ والإِطْلاقِ، وَفي هَذا العُمُومِ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ ـ تَعَالَى، بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وهو شَامِلٌ لِأَعْمَالِهِمْ وأَقْوالِهِمْ ونِيَّاتِهِم، وخطراتِ أَنفُسِهِمْ، ولِذَلِكَ فإنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْقُبُوهُ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ قَدَّمَ صِفةَ الْوَحْدَانِيَّةِ عَلَيْهَا فذكَرَها أَوَّلًا لِأَنَّ الوحدانيَّةَ تَجْمَعُ كُلَّ الصِّفَاتِ الإلهِيَّةِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ.
وَاسْتُعِيرَ فِعْلُ "وَسِعَ" لِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ والشُّمولِ العامِّ، وَكُلَّمَا اتَّسَعَ الْإِنَاءُ أَحَاطَ أَكْثَرَ بما هوَ دُونَهُ مِنَ الأَشْيَاءِ. وَجاءَ "عِلْمًا" منصوبًا عَلَى التَمْيِيزُ لِنِسْبَةِ السَّعَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" يَقُولُ: مَلَأَ.
قوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذي} إِنَّمَا: كَافَّةٌ وَمَكْفُوفَةٌ، تفيدُ الحصْرَ. و "إِلَهُكُمُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتذْكيرِ الجَمْعِ. وَلفظُ الجلالةِ "اللهُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. الَّذِي: اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةٌ لاسْمِ الجَلالَةِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وَيجوزُ أنْ تكونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} و "لَا" نَافِيَةٌ للجنسِ تَعْمَلُ عَمَلَ "إنَّ". و "إِلَهَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "لَا"، وَخَبَرُ "لَا" مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: "مَوْجُودٌ". و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغ (للحَصْرِ). و "هُو" ضَمِيرٌ منفصِلٌ للمُفْرَدِ المُنَزَّهِ، مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلًا مِنَ الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ فِي خَبَرِ "لَا"، وَجُمْلَةُ "لَا" مِنِ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} وَسِعَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى الاسْمِ المَوْصُولِ. و "كُلَّ" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، و "شَيْءٍ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عِلْمًا" تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفَاعِلِ منصوبٌ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ "لَا" النافيةِ للجنسِ عَلَى كَوْنِهَا صِلَةَ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {وَسِعَ} بِكَسْرِ السِّينِ كَسْرَةً خَفِيفَةً. وَ "عِلْمًا" عَلى هَذِهِ القِرَاءَةِ تَمْييزٌ مَنْقُولٌ مِنَ الفَاعِلِ كما تقدَّمَ آنِفًا في مَبْحَثِ الإعرابِ؛ إِذِ الأَصْلُ: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمُهُ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: "وَسَّعَ" بِفَتْحِ السِّينِ مُشَدَّدَةً. وعَلَى هذِهِ القراءةِ فـ "عِلْمًا" مَفْعُولٌ بِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ "وَسِع" مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا "عِلْمًا" فَانْتِصابُهُ عَلى التَّمْييزِ فاعِلًا فِي المَعْنَى. فَلَمَّا ثُقِّلَ نُقِلَ إِلَى التَعْدِيَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَنَصْبُهُما مَعًا عَلَى المَفْعُولِيَّةِ؛ لِأَنَّ المُمَيِّزَ فَاعِلٌ فِي المَعْنَى، كَمَا تَقُولُ فِي "خافَ زَيْدٌ عَمْرًا: خَوَّفْتُ زَيْدًا عَمْرًا" فَتَرُدُّ بِالنَّقْلِ مَا كانَ فاعلًا مَفْعُولًا. قالَهُ الزَّمَخشَريُّ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَالمَعْنَى: "أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" فَضَمَّنَهُ مَعْنَى أَعْطَى. قالَ السَّمينُ: وَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْلَى.
وَيَجوزُ أَنْ يكونَ تَمْييزًا أَيْضُا كَمَا هوَ فِي قِراءَةِ التَّخْفيفِ. قَالَ أَبُو البَقَاءِ أَيْضًا: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: وَهوَ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى: "عَظَّمَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ كَالأَرْضِ والسَّمَاءِ، وَهوَ بِمَعْنَى "بَسَط"، فَيَكونُ "عِلْمًا" تَمْيِيزًا". وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَّعَ خَلْقَ الأَشْيَاءِ وَكَثَّرَهَا بِالاخْتِرَاعِ. واللهُ أَعْلَمُ.