قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} الْخَطْبُ مَصْدَرٌ مِنْ "خَطَبَ الْأَمْرَ: إِذَا طَلَبَهُ، وَيُقالُ فِي الحَدَّثِ المُهِمِّ، الحَدَثِ الجَلَلِ، ولا يُسَمَّى الحَدَثُ خَطْبًا إِلَّا إِذَا كان عَظِيمًا جلَلًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَّفْسِهِ} الآيةَ: 51، فهوَ حَدَثٌ جلَلٌ أَنْ تَعْرِضَ تِلْكَ النِّسْوةُ أَنْفُسَهُنَّ عَلَى يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بما فيهِنَّ سيِّدَتُهُ امْرَأَةُ عَزيزِ مِصْرَ، لِيَزْنِيَ بِهِنَّ وَهُنَّ مِنْ عِلْيَةِ القَوْمِ، ويوسُفُ هُوَ غُلامُ العَزِيزِ. وقَوْلُهُ في الآيةِ: 23، مِنْ سُورةِ القَصَصِ حكايةً لقولِ مُوسَى لِابْنَتَيْ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِمُ سَلامُ اللهِ تَعَالَى: {مَا خَطْبُكُمَا؟}، وَذَلِكَ أَنَّهُ رآهُمَا وَاقِفَتَيْنِ تَذُودانِ أَغْنَامَهُما عَنِ الماءِ، والرُّعاةُ يَسْقونَ أَغنامَهم، إِذًا لَا شَكَّ في أَنَّ أَمْرًا جَلَلًا مَنَعَهُما مِنْ أَنْ تسْقِيا أَغْنَامَهُما العَطْشَى. وَقوْلُهُ مِنْ سُورةِ الحِجْر: {قالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المُرْسَلون} الآيَةَ: 57، وقد جاءَ الجوابُ الجَلَلُ: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} الحِجْر: 58، أَيْ لإِهْلَاكِهِم. وكذلكَ قالَ في سُورةِ الذارياتِ: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} الآياتِ: (31 ـ 34).
وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهُ يَقْتَضي انْتِهارًا كَأَنَّهُ قَالَ: ما نَحْسُكَ وَمَا شُؤْمُكَ؟. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو حيَّان الأَنْدَلُسِيُّ قوْلَهُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةَ: 57، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المُرْسَلون}.
إِذًا فَقَوْلُ سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: "مَا خَطْبُكَ؟" مُخاطِبًا السَّامِرِيَّ الذي صَنَعَ عجْلًا مِنْ الحُلِيِّ الذَّهَبيَّةِ، ولبَّسَ عَلى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّ هذا العِجْلَ الصَّنَمَ هوَ رَبُّهُم وإِلهُهُمْ وإِلَهُ مُوسَى، وَجَعَلَ فريقًا مِنْهُم يَعْبُدونَ هَذا الصَّنَمَ، مَعْنَاهُ: ما بالُكَ؟ ومَا شَأْنُكَ؟ وَمَا هُوَ طَلَبُكَ مِنْ فَعْلَتَكَ تِلْكَ الَّتي فَعَلْتَ، وَمَا الذي تَبْغِيهِ مِنْها؟ وَمَا هيَ قِصَّتُكَ؟. وما الذي حملَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ وَمَا هِيَ مُصِيبَتُكَ الَّتِي أَصَبْتَ بِهَا الْقَوْمَ وَمَا غَرَضُكَ مِمَّا فَعَلْتَ؟.
وَهُوَ سُؤالٌ للْإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَتَفْظِيعِ مَا صَنَعَهُ. فَإِنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى لَمَّا فَرَغَ مِنْ مُخَاطَبَةِ أَخِيهِ هَارُونَ ـ عَلَيْهِما السَّلَامُ، وَعَرَفَ عُذْرَهُ فيما اتَّخَذَ مِنْ موقِفٍ تجاهَ العِجْلِ وعابديهِ، أَقْبَلَ عَلَى السَّامِرِيِّ. فَيَجُوزُ أَنَّ السَّامِريَّ كانَ حَاضِرًا مَعَ هَارُونَ، فتَوَجَّهَ إِلَيْهِ بالخِطابِ بَعْدَ فراغِهِ مِنْ مُخاطبةِ أَخيهِ هارونَ، وَيَجُوزُ أَنْهُ حَضَرَ بَعْدَ ما دارَ مِنْ حديثٍ بَيْنَ الأَخَوينِ مُوسَى وهارونُ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ سَيِّدُنا مُوسَى ذَهَبَ إِلَيْهِ لِيُخَاطِبَهُ لِيَقِفَ عَلَى السَّبَبِ الذي حَمَلَهُ عَلَى ارْتِكابِ تلكَ الجريمةِ الشَّنيعةِ حينَ صَنَعَ مِنْ حليِّ القومِ عِجلًا، وادَّعى أَنَّ هذا العِجْلَ الذي صنعَهُ هوَ رَبُّ موسى، وأَمَرَ بَنِي إِسْرائيلَ بعبادَتِهِ، فأَطاعَتْهُ فِرْقةٌ مِنْهُمْ.
قالَ ابْنُ عاشورٍ هُنَا: (لَعَلَّ مُوسَى لَمْ يُغْلِظْ لَهُ الْقَوْلَ كَمَا أَغْلَظَ لِهَارُونَ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِالدِّينِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ضَلَالِهِ عَجَبٌ. وَلَعَلَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنَ الْقِبْطِ أَوْ مِنْ كِرْمَانَ فَانْدَسَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَمَّا كَانَ مُوسَى مَبْعُوثًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً وَلِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ لِأَجْلِ إِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِشَرِيعَةِ مُوسَى أَمْرًا غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى غَيْرِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَلَكِنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاهْتِدَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَنِّفْهُ مُوسَى لِأَنَّ الْأَجْدَرَ بِالتَّعْنِيفِ هُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ عَاهَدُوا اللهَ عَلَى الشَّرِيعَة. تَفْسيرُ ابْنِ عاشورٍ المُسَمَّى: "التَّحْريرُ وَالتَّنْويرُ": (16/294).
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ} فعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مُوسَى" ـ عليْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَمَا خَطْبُكَ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلى مَحْذُوفٍ، والتَقديرُ: اتَّخَذْتَ العِجْلَ إِلَهًا "فَمَا خَطْبُكَ"؟ والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ". و "ما" اسْمُ اسْتِفْهَامٍ للاسْتِفْهامِ التَّوْبِيخِيِّ، مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "خَطْبُكَ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ، مُضافٌ، و "كافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ على كونِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ. ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ رابطةً لِجَوابِ الشَّرْطِ، وَجُمْلَةُ: "ما خَطْبُكَ" فِي مَحَلِّ جَزْمٍ جَوَابَ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ مُقْتَرِنَةً بالفاءِ. وَالشَّرْطُ المُقَدَّرُ وَجَوَابُهُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ، أَيْ: إِنْ ذَكَرَ أَخِي الحَقيقَةَ فَمَا خَطْبُكَ أَنْتَ؟.
قوْلُهُ: {يَا سَامِرِيُّ} يَا: أَداةٌ للنِّداءِ، و "سَامِرِيُّ" مُنَادَى مُفْرَدُ العَلَمِ، مبنيٌّ على الضَّمِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى النِّداءِ. وَجُمْلَةُ النِّداءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ". لا محلّ لها جملةٌ اعْتِراضِيَّةٌ بَيْنَ طَرَفِيِّ الحِوارِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، ويَجُوزُ أَيْضًا أنْ تُعرَبَ اسْتِئْنَافِيَّةً، فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ أَيْضًا.