أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي
(93)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} أَيْ: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَتَّبِعَني فِي الخُرُوجِ مِنْ بينِهِمْ، واللَّحاقِ بِي، وَأَلَّا تُقِيمَ مَعَ مَنْ ضَلَّ. أَوْ: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَتَّبِعَني فِي مَنْعِهِمْ مِنَ عبادةِ العِجْلِ بالقوَّةِ وَإِنْكارِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ النُّكْرانِ. كَمَا هوَ شَأْني لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلوا ذَلِكَ بِحُضُورِي.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ مَعْنَى "تَتَّبِعْنِي" تُفَارِقُهمْ وَتَسيرُ وَرَائي بِمَنْ مَعَكَ مِنَ المُؤْمِنينَ. وروَىَ أبو صالحٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ المَعْنَى: أَنْ تُنَاجِزَهُمُ القِتَالَ. وَرُوِيَ عنْ مُقاتلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ مَعْناهُ الإِنْكارُ عَلَيْهِمْ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قالَ بَعْضُهم: "لا" هُنَا زَائِدَةٌ، ولَا زائدَ في القُرْآنِ الكَريمِ البَتَّةَ، لِأَنَّهُ كَلامُ اللهِ المُنَزَّهُ عَنِ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، وَلِكُلُّ حَرْفٍ فِيهِ مَوْضِعُهُ المُناسِبِ لا يَتَقدَّمُ عنْهُ ولا يَتَأَخَرُ ولا يُسْتَغْنى عَنْهُ. فَإِنَّ المَنْعَ هُنَا بِمَعْنَى الحِمَايَةِ، وَمِنْهُ يُقالُ: حُصْنٌ مَنيعٌ. وَفُلانٌ مَنِيعُ المَقَامِ، إِذا كانَ عَزيزًا مُمْتَنِعًا عَلَى مَنْ يَرُومُهُ ذَا حِمَايَةٍ، وَعَلَيْهِ فإنَّ مَعْنَى كَلامِ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ: مَا الذي جَعَلَكَ ذَا مِنْعَةٍ وَحِمَايَةٍ مِنِّي مما حَمَلَكَ عَلَى أَلَّا تَتَّبِعْنِي، وَمَنِ النَّصِيرُ لَكَ عَلَى ذَلِكَ، وأَنْتَ مُعَاوني وَنَاصِرِي، وَرِدْءٌ لِي، فَلِمَاذا لَمْ تَتَّبِعْني وتَذَرْهُمْ وما يعبدونَ مِنْ دونِ اللهِ.
قَوْلُهُ: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} الفَاءُ: لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: فَبِاعْتِمادِكِ عَلَى غَيْرِي وحِمَايَتِكَ مِنْ قِبَلِهِ عَصَيْتَ أَمْرِي؟ فَمَا الذي حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟.
فَقَدْ نَسَبَ سَيُّدُنا مُوسَى أَخَاهُ هارُونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، إِلَى عِصْيانِهِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ كانَ قَالَ لَهُ عِنْدَمَا أَرَادَ الذَّهابَ إِلَى المِيقَاتِ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدينَ} الآيةَ: 142، مِنْ سُورةِ الأَعْرَافِ، فَلَمَّا أَقَامَ مَعَهُمْ وهمْ على ضلالِهِمْ ولمْ يُفَارِقْهُمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَعْبُدوا العِجْلِّ، أَوْ يُبالِغْ في الإِنْكارِ عَلَيْهِمْ، واجههُ مُوسَى بِهَذِهِ المُساءَلَةِ.
وَكانَ مُوسَى يَرَى أَنَّهُ كانَ عَلَى هارُونَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، وَيَمْنَعَهَمْ بالقُوَّةِ، وَأَنَّ الْقِتَالَ أَصْلَحُ لَحَالِهِمْ، بَيْنَمَا كانَ هَارُونُ يَرَى أَنَّ الرِّفْقَ بهِمْ، وَعَدَمَ مُقَاتَلَتِهِمْ هُوَ الأَصْلَحُ لَهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُ قاطَعَهُمْ وَعَادَاهُمْ وَقاتَلَهُمْ لَصَارُوا حِزْبَيْنِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وقدْ بيَّنَ وُجْهَةَ نَظَرِهِ، وَأَوْضَحَ حُجَّتَهُ بِقَوْلِهِ بعدها: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}، إِذًا فَقَدِ اجْتَهَدَا فَاخْتَلَفَ رَأْيُهُما في الاجْتِهادِ، وَلَا عَيْبَ فِي ذَلِكَ.
قولُهُ تَعَالى: {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} أَلَّا: هِيَ "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ وَمَصْدَرٍ، وَ "لا" نافِيَةٌ، وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُنَاسِبُ مَعْنَى النَّفْيِ. وَالْمَصْدَرُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ "أَنْ" هُوَ مَفْعُولُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَأَمَّا مَفْعُولُ "مَنَعَكَ" فَمَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ "مَنَعَكَ" وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَتَّبِعَنِي وَاضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ احْتِبَاكٍ. وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ التَّوْبِيخِ وَتَشْدِيدُهُ بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ لِـ "هَارُونَ" حِينَئِذٍ مَانِعٌ مِنَ اللَّحَاقِ بِمُوسَى وَمُقْتَضٍ لِعَدَمِ اللَّحَاقِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: وُجِدَ السَّبَبُ وَانْتَفَى الْمَانِعُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْأَعْرَافِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآية: 12. و "تَتَّبِعَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ"، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنتَ) يَعُودُ عَلى "هَارُونُ"، والنُّونُ للْوِقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذُوفَةُ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِكَسْرَةِ نُونِ الوِقَايَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُوليَّةِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ الحَرْفِيِّ "أَنْ"، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَالمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَلَّا تَتَّبَعَنَ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ مُتَعَلِّقِ بِـ "مَنَعَكَ"، والتقديرُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ اتِّباعِي.
قوْلُهُ: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ الإِنْكاريِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ مُفَرَّعٍ عَلَى الْإِنْكَارِ قبْلَهُ، فَهُوَ إِنْكَارٌ ثَانٍ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، والفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتَقْديرُ أَأَقَمْتَ بَيْنَ هَؤُلاءِ الذينَ عَبَدُوا العِجْلَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي. و "عَصَيْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهِيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "أَمْرِي" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ مُضافٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقدَّرَةٌ عَلى آخِرِهِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحركةِ المناسِبةِ للياءِ، والياءُ ضميرُ المُتكلِّمِ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ جملةِ "مَا مَنَعَكَ" عَلَى كَوْنِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: "أَلَّا تَتَّبِعَنِي" بِيَاءٍ فِي الوَصْلِ سَاكِنَةٍ، وَيَقِفُ ابْنُ كَثيرٍ بالياءِ، وَأَبُو عَمْرٍو بِغَيْرِ يَاءٍ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرَ عَنْ نَافِعٍ: "أَلَّا تَتَّبِعَنِيَ أَفَعَصَيْتَ" بِيَاءٍ مَنْصُوبَةٍ. وَرَوَى قَالونُ عَنْ نَافِعٍ مِثْلَ أَبي عَمْرٍو سَواءً. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ وَالكِسَائِيُّ: بِغَيْرِ ياءِ فِي الوَصْلِ، وَالوَقْفِ.