قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى
(91)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} لَنْ نَبْرَحَ: أَيْ: لَنْ نُفَارِقَ عِبَادَةَ العِجْلِ، بَلْ سَنَظَلُّ عَلَى ما نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ عبَادَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى، فَلَنْ نَبْقَى دونَ إِلَهٍ نَعبُدُ طِيلَةَ مُدَّةِ غيابِ مُوسَى. وَنَحْنُ مُقيمُونَ عَلَى هَذِهِ الحالِ وسَنَظَلُّ عَلَيْهِا. فَالفعلُ "بَرِحَ" قدْ يَكونُ للحَالِ كَمَا هُوَ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَكَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الكِهْفِ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ} الآيةَ: 60، أَيْ: لَا أَبْرَحُ السَّيْرَ. وقدْ يكونُ لِلْمَكَانِ كَمَا في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} الآيةَ: 80.
و "عاكفينَ" أَيْ: مُقيمينَ، مُلازِمينَ، مِنْ عَكَفَهُ: إِذا حَبَسَهُ، يَعْكُفُهُ، ويَعْكِفُهُ، عَكْفًا. قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ: {والهَدْيَ مَعْكوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الآيةَ: 25. أَيْ مَحْبُوسًا، تَقَولُ: مَا عَكَفَكَ عَنْ كَذَا، أَيْ ما حَبَسَكَ. وَمِنْه الاعْتِكافُ فِي المَسْجِدِ، أَيْ: الاحْتِبَاسُ. وَعَكَفَ عَلى الأَمْرِ، "يَعْكُفُ" و "يَعْكِفُ" عُكوفًا، إِذا وَاظَبَ. وأَيْضًا عَكَفُوا حَوْلَ الشَّيْءِ: اسْتَدَارُوا حولَهُ وحفُّوا بِهِ. وَالْعُكُوفُ: الْمُلَازَمَةُ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَالتَّعَبُّدِ، وَقَدْ كَانَ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ يَلْزَمُونَهَا، وَيَطُوفونَ بِهَا. وَقَدْ قُدِّمَ حَرْفُ الجَرِّ "عَلى" عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ، أَوْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا: لَنْ نَبْرَحَ نَخُصُّهُ بِالْعُكُوفِ، ولَا نَعْكُفُ عَلَى غَيْرِهِ.
قوْلُهُ: {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أَيْ: سَنَظَلُّ عَلى عِبَادَةِ عِجْلِنا هَذا "حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى"، فَيَنْظُرَ هَلْ عَبَدْنَاهُ كَمَا يَعْبُدُهُ هوَ، فقد تَوَهَّمُوا أَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ يَعْبُدُ العِجْلَ أَيْضًا، وَيَعْني قوْلُهُم هَذَا أَنَّهُمْ اسْتَمَرُّوا في عِنَادِهِم، وَأَصَرُّوا عَلى ضَلَالِهِمْ، ولَمْ يَكْتَرِثُوا بِبَيَانِ نبيِّهِمْ هارونَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ، وَنُصْحِهِ وإِرْشادِهِ لَهُمْ، بَلْ إِنَّ في جَوابِهِمْ هَذَا، اسْتِخْفافًا بِهَارُونَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا نَقْبَلُ حُجَّتَكَ، ولا نَرْعَوِي لنُصْحِكَ، وَلَكِنْ نَقْبَلُ مِنْ مُوسَى ما يأْمُرُنا بِهِ، وكَأَنَّهُمْ غيرُ مُؤْمُنِينَ بِنُبُوَّةِ هارونَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالُوا} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِه، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلفُ فارِقَةٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.
قوْلُهُ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} لَنْ: حَرْفُ نَفْيٍ وَنَصْبٍ. و "نَبْرَحَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَنْصُوبٌ بِـ "لَنْ" واسْمُها: ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هم) يَعودُ عَلَى عابِدِي العِجْلِ. و "عَلَيْهِ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَاكِفِينَ"، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. و "عَاكِفِينَ" خَبَرُ "نَبْرَحَ" مَنْصُوبٌ بِهِ، وعلامةُ النَّصْبِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، وَالجُمْلةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ، بِمَعْنَى "إِلى"، مُتَعَلَّقٌ بِـ "نَبْرَحَ" أَوْ بِـ "عَاكِفِينَ". و "يَرْجِعَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ "حَتَّى" وُجوبًا. و "إِلَيْنَا" إِلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَرْجِعَ"، و "نَا" ضميرُ جَماعةِ المُتكَلِّمينَ، مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. و "مُوسَى" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها عَلى الأَلِفِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "حَتَّى"، والتقديرُ: إِلَى رُجُوعِ موسَى إِلَيْنَا.