فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} أَيْ: فَلَا يَصُدَنَّكَ عَنْ ذِكْرِ السَّاعَةِ وَمُرَاقَبَتِها، وَقِيلَ لا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا وَالتَّصْدِيقِ لَهَا مَنْ يَكْفُرُ ويُكذِّبُ بِهَا. وَقَالَ الفَرَّاءُ: المَعْنَى لا يَمْنَعَنَّكَ وَلَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الإِيمانِ بِهَا. مَعَانِي القُرْآنِ وإعرابُهُ، لَهُ: (2/177). وَقالَ أَبو اسْحاقٍ الزَّجَاجُ: المَعْنَى لا يَمْنَعَنَّكَ وَلَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ التَّصْديقِ بِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بَأَنَّها تَكونُ. مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرَابُهُ، لَه: (3/353). والأَوَّلُ هُوَ الْأَلْيَقُ بِشَأْنِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وَ "الصَّدُّ" مُسْتَعْمَلٌ فِي الصَّرْفِ عَنِ سُبُلِ الخَيْرِ وَحَسْبُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصَّرْفِ عَنْ سُبُلِ الشَّرِّ البَتَّةَ، فَيُقالُ: صَدَّ فُلانٌ فُلانًا عَنِ الإيمانِ، أَوْ عَنِ الحَقِّ، وَلَا يُقالُ: صَدَّهُ عَنِ الكُفْرِ، أَوْ الأَذَى، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شاكَلَهُ.
وَتَقْديمُ الجَارِّ وَالمَجْرُورِ "عَنْهَا" عَلَى قَوْلِهِ "مَنْ لَّا يُؤْمِنُ بِهَا" لِمَا مَرَّ غيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّ الاهْتِمَامَ بالمُقَدَّمِ والتَّشْويقِ إِلَى المُؤَخَّرِ، فإِنَّ مَا حَقُّهُ التَقْديمُ إِذَا أُخِّرَ تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إِلى مَعْرِفَتِهِ.
و "مَنْ لَّا يُؤْمِنُ" هُوَ المَنْهيُّ ظاهِرًا، أَمَّا المُرادُ فَغيرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ صَدَّ الكافِرِ عَنِ التَّصْديقِ بِهَا سَبَبٌ للتَّكْذيبِ، فَذَكَرَ السَّبَبَ لِيَدُلَّ عَلَى المُسَبَّبِ. وَالضَّميرَانِ فِي "عَنْها"، وَ "بِهَا" عائدانِ للسَّاعَةِ. وَقِيلَ: هُمَا عائدانِ للصَّلاةِ. وَقِيلَ فِي "عَنْهَا" للصَّلاةِ، وَفِي "بِهَا" للسَّاعَةِ.
وَقد صِيغَ نَهْيُ مُوسَى عَنِ الصَّدِّ عَنْهَا فِي صِيغَةِ نَهْيِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالسَّاعَةِ عَنْ أَنْ يُصَدَّ مُوسَى عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، مُبَالَغَةً فِي نَهْيِهِ ـ عليْهِ السَّلامُ، عَنْ أَدْنَى شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِها، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّهْيُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ بها عَنْ أَنْ يَصُدَّ مُوسَى عَنْهَا، عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ مُوسَى عَنْ مُلَابَسَةِ صَدِّ الْكَافِرِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، أَيْ لَا تَكُنْ لَيِّنَ الجانِبِ لِمَنْ يَريدُ أَنْ يَصُدَّكَ عَنِ الإيمانِ بِهَا، وَلَا تُصْغِ إِلَيْهِ، فَيُشَجِّعُهُ ذَلِكَ عَلَى صَدِّكَ، وَيجعلُهُ جَريئًا في نَهْيِكَ، فَوَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَبَّبِ. وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ.
قَوْلُهُ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} فتَرْدَى: فتَهْلِكُ، أَيْ: اتَّبعَ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ مِنَ اللَّذَّاتِ الحِسِّيَّةِ لأَنَّ الغَفْلَةَ عَنْهَا وَعَنْ تَحْصِيلِ مَا يُنْجِّي عَنْ أَهْوالِهَا مُسْتَتْبِعٌ للهَلَاكِ لَا مَحَالَةَ. والرَّدَى: الهلاكُ، يُقَالُ: رَدِيَ، يَرْدَى، رَدًى. ومِنْهُ قَولُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارسًا .......... فَقُلْتُ أَعَبْدُ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
وقد جَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ لِلْإِيمَاءِ بِالصِّلَةِ إِلَى تَعْلِيلِ الصَّدِّ، أَيْ مَا مِنْ دَاعٍ لَهُمْ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى دُونَ دَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ، بَلِ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالسَّاعَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيَةِ التي قَبْلَهَا: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}. وَفُرِّعَ عَلَى النَّهْيِ أَنَّهُ إِنْ صُدَّ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ هَلَكَ. وَالْهَلَاكُ مُسْتَعَارٌ لِأَسْوَأِ الْحَالِ والعاقِبَةِ كَمَا جاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ التَّوْبَةِ: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} الآيَةَ: 42. وقد نَشَأَ هذا التَّفْريعُ عَن ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ لَا عَلَى النَّهْيِ، وَلِذَلِكَ جِاءَ التَّفْريعُ بِالْفَاءِ وَلَمْ يَقَعْ بِالْجَزَاءِ الْمَجْزُومِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ: "تَرْدَ"، لِعَدَمِ صِحَّةِ حُلُولِ "إِنْ" مَعَ "لَا" عِوَضًا عَنِ الْجَزَاءِ، وَذَلِكَ ضَابِطُ صِحَّةِ جَزْمِ الْجَزَاءِ بَعْدَ النَّهْيِ.
وَقَدْ جَاءَ هذا الخِطَابُ لِمُوسَى مِنَ اللهِ تَعَالَى بِطَرِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كُلِّ حُكْمٍ، وَأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، فابْتُدِئَ بِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ الَّذِي يُكَلِّمُهُ هُوَ اللهُ تَعَالى، وَأَنَّ رَبَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي، ثُمَّ عَقَّبَ بِإِثْبَاتِ السَّاعَةِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ السَّاعَةَ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيَهُ عَنْ أَنْ يَصُدَّهُ عَنِ الإيمانِ بالسَّاعَةِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى هذا النَّهْيِ أَنَّهُ إِنِ ارْتَكَبَ مَا نَهَاهُ اللهُ عَنْهُ خَابَ وَخَسِرَ وَهَلَكَ.
قولُهُ تَعَالى: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ، تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ مَا ذُكِرَ لَكَ، وأَرَدْتَ معرفةَ ما هو الواجِبُ عَلَيْكَ. فَأَقُولُ "لَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا". و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "يَصُدَّنَّكَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مبنيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ لاتِّصَالِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ. و "عَنْهَا" عَنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَصُدَّ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "لَا" نَافِيَةٌ، و "يُؤْمِنُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "مَنْ". و "بِهَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُ"، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَجُمْلَةُ "يَصُدَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ.
قوْلُهُ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "اتَّبَعَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا يعودُ على "مَنْ". و "هواهُ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها عَلى الألِفِ، وهو مُضافٌ. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "لَا يُؤْمِنُ" عَلَى كَوْنِهَا صِلَةَ الموصولِ "مَنْ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَتَرْدَى} الفَاءُ: حرفٌ للعَطْفِ والسَّبَبِيَّةِ. و "تردى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ فاءِ السَّبَبِيَّةِ الواقِعَةِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وعلامةُ نَصْبِهِ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها عَلى الأَلِفِ. وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيِدِنا مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، أَوْ عَلَى مَنْ كانَ أهلًا لهذا الخِطابِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ، مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطوفِ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ مِنْ الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا مِنْ غَيْرِ سَابِكٍ، لإِصْلاحِ المَعْنَى، والتقديرُ: فَلَا يَكُنْ صَدٌّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا إِيَّاكَ عَنْهَا مُهْلِكَكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأٍ مُضْمَرٍ والتَقْديرُ: فَأَنْتَ تَرْدَى.
قَرَأَ الجمهورُ: {تَردى} وَقَرَأَ يَحْيَىَ بْنُ مُعَمَّرٍ "تِرْدَى" بِكَسْرِ التَّاءِ. وَهيَ لُغَةٌ فيها.