وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي
(32)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أَيْ: وَاجْعَلْهُ شَريكًا لِي فِي أَمْرِي، وأَمْرُهُ هُوَ نُّبُوَّتُهُ الَّتي أَكْرَمَهُ اللهُ بِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: المُرادُ بِـ "أَمْرِي" هَهُنَا: النُّبُوَّةُ. أَيْ: اجْمَعْ بَيْني وَبَيْنَ أَخِي فِي النُّبُوَّةِ. وَلَا يَكونُ الاشْتِرَاكُ فِي النُّبُوَّةِ إِلَّا مِنَ اللهِ ـ سُبْحانَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ أَمْرُهُ شَأْنَهُ الذي هوَ غَيْرُ النَّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ النَّبُوَّةَ، كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وغَيْرُهُ، وقدْ تَقَدَّمَ. وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُحْمَلَ قوْلُهُ: "وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي" عَلَى غَيْرِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا يُعْلَمُ فِيهِ مَسْأَلَةُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي} الآيةَ: 34. انظُرْ: (الحُجَّةُ للقُرَّاءِ السَّبْعَةِ) لِأَبي عَلِيٍّ الفارسيِّ: (5/222).
وَهَذَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} الآيةَ: 29، السَّابِقة. فَقَدِ سَأَلَ سيِّدُنا مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ أَخاهُ هَارُونَ مُعِينًا لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، وَشَرِيكًا لَهُ فِي مَا يَخُصُّ أَمْرَ رِسَالَتِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي" قَالَ: نُبِّئَ هَرَونُ سَاعَتَئِذٍ حِينَ نُبِّئَ مُوسَى ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ أُمَّ المُؤمِنينَ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّها سَمِعَتْ رَجُلًا يَقُولُ: إِنِّي لَأَدْري أَيَّ أَخِ فِي الدُّنْيَا كَانَ أَنْفَعَ لِأَخِيهِ: مُوسَى حِينَ سَأَلَ لِأَخِيهِ النُّبُوَّةَ، فَقَالَتْ: صَدَقَ وَاللهِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَارُونُ فَصِيحًا بَيِّنَ النُّطْقِ يَتَكَلَّمُ فِي تُؤَدَةٍ، وَيَقُولُ بِعِلْمٍ وَحِلْمٍ، وَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ مُوسَى طُولًا، وَأَكْبَرَهُما فِي السِّنِّ، وَأَكْثَرَهُمَا لَحْمًا، وَأَبْيَضَهُمَا جِسْمًا، وَأَعْظَمَهُمَا أَلْوَاحًا، وَكَانَ مُوْسَى جَعْدًا آدَمَ، طَوَالًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيًا إِلَّا وَقَدْ كَانَتْ عَلَيْهِ شَامَةُ النُّبُوَّةِ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، إِلَّا أَنْ يَكونَ نَبِيَّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ شَامَةَ النُّبُوَّةِ كَانَتْ بَيْنَ كَتِفَيْهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "أَشْرِكْهُ" فِعْلُ دُعَاءٍ ورجاءٍ وَطَلَبٍ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، مَفْعُولٌ بِهِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَشْرِكْهُ"، و "أَمْرِي" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطَوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ التي قبلَهَا وهي بدورِها معطوفةٌ على جملةِ قَوْلِهِ {اشْرَحْ} بِعَاطِفٍ مُقَدَّرِ، عَلَى كَوْنِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ"، أَوْ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَأَشْرِكُهُ} بِفَتْحِ هَمْزَةِ القَطْعِ، عَلَى أَنَّهُ فعلَ دُعاءٍ مِنْ مُوسَى لِرَبِّهِ بِذَلِكَ. وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ، فَقَدْ تُرِكَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ العَطْفُ خَاصَّةً دُونَ مَا تَقَدَّمَها مِنْ جُمَلِ الدُّعاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "أُشْرِكْهُ" بِضَمِّ الهَمْزَةِ للمُضَارَعَةِ وَجَزْمِ الفِعْلِ نَسَقًا عَلَى مَا قَبْلَهُ.