إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
(48)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} أَيْ: وَقُولَا لِفِرْعَوْنِ مِصْرَ إِذا أَتيتُماهُ: "إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا" مِنَ اللهِ رَبِّنا وَرَبِّكَ، فَمَا زَالَ الحَدِيثُ عَنْ نَصِّ الرِّسَالَةِ، رِسَالَةِ اللهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، إِلى عَدُوِّهِ فِرْعَوْنِ مِصْرَ طَاغِيَةِ عَصْرِهِ وَجَبَّارِ وَقْتِهِ في الأرضِ.
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي أَمَرَ رَسُوْلَيْهِ: مُوسَى وَهَارُونَ ـ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِتَبْلِيغِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ.
قَوْلُهُ: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أَيْ: إِنَّ الْهَلَاكَ وَالدَّمَارَ والعَنَتَ فِي الدُّنْيَا، وَالْخُلُودَ في العَذَابِ بِنَارِ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَاقعٌ "عَلى مَنْ كَذَّبَ" أَنْبِيَاءَ اللهِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ بربِّهِ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّا قَدْ أُوحِي إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى"، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَذَّبَ بِكِتَاب اللهِ، وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَتِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى.
وَتَعْرِيفُ الْعَذَابِ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَإِطْلَاقُ الْعَذَابِ دُونَ تَقْيِيدِهِ بالدُّنيا، أَوِ الآخِرَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ هو لِتَعْمِيمِ النِّذَارَةِ، ولِأَنَّهُ أَشَدُّ في التَّخْويفِ والتَهْويلِ، فَكَأَنَّما قِيلَ: إِنَّ عَذَابًا شَديدًا جِدًّا وَاقِعٌ عَلَى مَنْ كَذَّبَ. فَالْمُعَرَّفُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ، في التَّعْميمِ وَالتَّرْهِيبِ.
وَتقديمُ هَذَا التَّعْرِيضِ وَالتَّخْويفِ بِالعَذابِ مِنَ اللهِ ـ جَلَّ وعلا، إِنَّما جَاءَ لِإِنْذَارِ فِرْعَونَ بِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ أَنْ يَكونَ مِنْهُ تَكْذِيبٌ لِمَضْمُونِ رِسالَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَرَفْضٌ لَهَا، لِيَكُونَ التَّبْليغُ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُبْدِيَ فِيهَا رَأْيًا، حَتَّى يُفكِّرَ مَلِيًّا قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ عَلى الرِّسالةِ، ولِكَيْ لَا يُضطَّرَّا إِلى مُجَابَهَتِهِ بِتَوْجِيهِ الْإِنْذَارِ إِلَيْهِ بَعْدَ صُدورِ رَدٍّ مِنْهُ، فَيَكونَا في حَرَجٍ مِنْ ذلِكَ.
وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الحَكِيمِ وَلِينِ الْقَوْلِ الَّذِي سَبَقَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالى بِهِ ـ موسَى وهارونَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، بقولِهِ في الآيةِ: 44، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الكريمةِ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
أَيْ: إِنَّمَا يُعَذِّبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ كَذَّبَ بِمَا جِئْنَا بِهِ مِنْ عِنْدَهُ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ وحَسْبُ، فَأَمَّا مَنِ اتَّبَعَ ما جِئْنا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا مِنْ تشْريعٍ وَتَعَاليمَ، فَإِنَّهُ يَسْلَم مِنْ عَذَابِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وقَالَ أَبوا إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى سَلِمَ مِنْ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ ـ تَعَالى جَدُّهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ لِلْمُوَحِّدِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوا وَلَمْ يَتَوَلَّوْا.
وقالَ الفَرَّاءُ في "مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرابِهِ"، قِيلَ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ للمُؤْمِنينَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيْهِمَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ أَنْبِيَاءَ اللهِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الإِيمانِ. وَ "الْعَذَابَ" هَهُنَا اسْمُ الجِنْسِ، وَظاهِرُ هَذَا مُوجِبُ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ وَآمَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ العَذَابِ. "معاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للإمامِ الفَرَّاء: (2/180).
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} إِنَّا: هِيَ: "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "نا" ضميرُ جماعةِ المُتَكَلِّمِينَ يعودُ على موسَى وهارونَ ـ عليْهِما السَّلامُ، وهوَ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". و "قَدْ" حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و "أُوحِيَ" فِعْلٌ مَاضٍ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، أَوْ للمَفْعُولِ، وَقِيلَ إِنَّ سَبَبَ بِنَائِهِ للمَفْعُولِ، أَوْ للمَجْهولِ، الخَوْفُ مِنْ أَنْ يَبْدُرَ مِنْ فِرْعَوْنَ بادِرَةٌ كالسَبِّ لِمَنْ أَوْحَى لَوْ أَنَّهما سَمَّياهُ، فَطَوَيا ذِكْرَهُ تَعْظيمًا لَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَاسْتِهَانَةً بِالمُخَاطَبِ. و "إِلَيْنَا" إلى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُوحِيَ"، وَ "نَا" ضميرُ جماعةِ المُتكلِّمينَ، وَهُمَا مُوسَى هَارُونُ ـ عَليْهِما السَّلامُ، وَجَازَ اسْتِعْمَالُ ضَمِيرِ الجَمْعِ وَهُمَا اثْنَيْنِ لَجَوَازِ اعْتِبارِ الاثْنَيْنِ جمعًا، وهوَ مَبْنِيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، خَبَرُ "إِنَّ". وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قُولَا".
قولُهُ: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ} أَنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. و "الْعَذَابَ" اسْمُ "أَنَّ" منصوبٌ بها. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "أَنَّ" المَحْذَوفِ، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوصولٌ بِمَعْنَى "الذي" مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "كَذَّبَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتَرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ على الاسْمِ المَوْصولِ "مَنْ"، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ، عَلَى كَوْنِهِ نَائِبَ فَاعِلٍ لِـ "أُوحِيَ"؛ أَيْ: "أُوحِيَ إِلَيْنَا" كَوْنُ العَذَابِ عَلَى مَنْ "كَذَّبَ وَتَوَلَّى".