فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
قولُهُ ـ تعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} قِيلَ إِنَّ السَّامِرِيَّ صَنَعَ مِنَ الذَّهَبِ المَصْهورِ هَيْكَلًا عَلَى صُورَةِ الْعِجْلِ، وَجَعَلَ فِي هَذا الهَيْكَلِ مَنَافِذَ وَمَخَارِقَ بِحَيْثُ تَدْخُلُ الرِّيَاحُ فِيهَا، فَيَخْرُجُ مِنْهُ صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ الْعِجْلِ.
وَقيلَ إِنَّهُ صَارَ حَيًّا بِمَا قَذَفَ فيهِ مِنْ تُرابٍ أَخَذَهُ منْ أَثَرِ حافِرِ فَرَسِ جِبْريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمَّا نَزَلَ بالوَحْيِ عَلَى مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَدَبَّتِ الحياةُ فِيهِ وَخَارَ كَمَا يَخُورُ الْعِجْلُ، وَاحْتَجُّوا عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 96، مِنْ هذهِ السُّورةِ المُبَارَكَةِ حكايةً لِقَوْلِ السَّامِرِيِّ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا}، ثمَّ إِنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ عِجْلًا، وَجَسَدًا، وَهُذا إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَيَّ، وَقدَ أَثْبَتَ لَهُ الْخُوَارَ أَيْضًا.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لَمَا أُسْبِكَتِ الحُلِيُّ فِي النَّارِ، أَقْبَلَ السَّامِرِيُّ إِلَى النَّارِ، فَقَالَ لِهَارُونَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أُلْقي مَا فِي يَدِي؟. قَالَ: نَعَمْ، وَلَا يَظُنَّ هَارونُ إِلَّا أَنَّهُ لِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ تِلْكَ الحُلِيِّ وَالأَمْتِعَةِ، فَقَذَفَهُ فِيهَا، وَقَالَ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ، فَكانَ للبَلاءِ وَالفِتْنَةِ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ نبيَّ اللهِ هَارُونَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَصْنَعُ الْعِجْلَ فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟. فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَادْعُ لِي. فَقَالَ هارونُ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَ، فَلَمَّا مَضَى هَارُونُ قَالَ السَّامِرِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُورَ، فَخَارَ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ خُوارُ العِجْلِ مُعْجِزة لِلنَّبِيِّ هارونَ ـ عليْهِ السَّلامُ.
وأَمَّا السَّامِريُّ فهُوَ عِلْجًا مِنْ أَهْلِ كَرْمَانَ وَقَعَ إِلَى مِصْرَ وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقْرَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ. وقالَ الزَّجَّاجُ: بَلْ كَانَ رَجُلًا مِنَ الْقِبْطِ جَارًا لِمُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ آمَنَ بِهِ. رواهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ المُفَسِّرينَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا السَّامِرَةُ. واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْحُلُولِيَّةِ فَجَوَّزُوا حُلُولَ الْإِلَهِ أَوْ حُلُولَ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فِي ذَلِكَ الْجِسْمِ، لأَنَّ مَنْ قالي ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكونَوا مَجَانِينَ لا عقلَ فِيهِم سَواءً اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعِجْلَ المَصنوعَ في تِلْكَ السَّاعَةِ هوَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فَيها، أَوْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْجُنُونِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ مُحَالٌ، أَوْ لَعَلَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْبَلَادَةِ وَالْجَلَافَةِ.
قَوْلُهُ: {فَنَسِيَ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّميرُ فيهِ إِلَى سَيِّدِنَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَيْ: نَسِيَ وَقْتَ الْمَوْعِدِ فِي الرُّجُوعِ.
ويُحْتمَلُ أَنْ يَكَونَ مِنْ كلَامِ اللهِ تَعَالَى، أَخْبَرَ عَنِ السَّامِرِيِّ أَنَّهُ نَسِيَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ الْإِلَهَ لَا يَحِلُّ فِي شَيْءٍ وَلَا يَحِلُّ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ في الآيةِ التي بَعَدَهَا: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أَيْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ لَا يَكُونُ إِلَهًا، وَلَا يَكُونُ لِلْإِلَهِ تَعَلُّقٌ بِهِ فِي الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ. وَعَلَيْهِ فيكونُ القَوْمُ قدْ ردَّدوا قولَ السَّامِرِيِّ حينَ قالوا: "هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى". وَأَكْثَرُ المُفسِّرينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ السَّامِرِيِّ وَصَفَ بِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ: أَنَّ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ مُوسَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِلَهُ فَذَهَبَ يَطْلُبُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "أَخْرَجَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى "السَّامِرِيِّ". و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَخْرَجَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و "عِجْلًا" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ، وَ "جَسَدًا" بَدَلٌ مِنْ "عِجْلًا" مَنْصُوبٌ مِثْلُهُ. والجُمْلَةُ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ" لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ كَلامِهِمْ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
قولُهُ: {لَهُ خُوارٌ} لَهُ: اللَّامُ حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "خُوَارٌ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةٌ لِـ "جَسَدًا".
قوْلُهُ: {فَقَالُوا} الفاءُ: عاطِفَةٌ، وَ "قَالوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلفُ فارقةٌ. والجملةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} مِنَ الآيةِ قبلَها.
قوْلُهُ: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} هَذَا: الهاءُ: للتَّنْبيهِ، و "ذا" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "إِلَهُكُمْ" خَبَرُ المُبتَدَأِ مرفوعٌ، مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتَذْكيرِ الجَمْعِ. و "وَإِلَهُ مُوسَى" الواوُ للعطْفِ، و "إلهُ" مَعْطوفٌ عَلَى الخَبَرِ قبلَهٌ مرفوعٌ مِثْلُهُ، وهو مُضافٌ، و "موسى" مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وَالجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {فَنَسِيَ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "نَسِيَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مُوسَى" علَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "هَذَا إِلَهُكُمْ".