وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} مَا أَعْجَلَكَ: أَيْ: ما الذي أَسْرَعَ بِكَ؟ وَلِمَاذَا جِئْتَ قَبْلَ مَوْعِدِكَ؟. وهوَ إِنْكَارٌ فِي صِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلَى قَوْمِهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى الْمَكَانِ الموعودِ، وهو جانبُ الطُّورِ الأَيْمنُ المَذْكورُ في قولِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} الآيةَ: 80، السابقة، منْ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركة، وَفِي غيرِها مِنْ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ في الآيَةِ: 142، منْ سُورةِ الأَعْراف: {وَواعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً، يُرِيدُ الْمِيقَاتَ عِنْدَ الطُّورِ. ويَبْدو أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَدِ اجْتَهَدَ في تَقَدُّمِهِ قَوْمَهُ، وتَعَجُلِهِ عَلَيْهِمْ طلَبًا لمَرْضاةِ رَبِّهِ، ورَغبَةً في لِقائهِ ومُنجاتِه، وَهَذَا واضِحٌ في جَوَابِهِ لمولاهُ في الآيةِ التي بَعْدَها: {وعجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. إِذًا لقد أَخْطَأَ سيُّدُنا موسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، فِي اجْتِهَادِهِ هَذَا، فَاسْتَوْجَبَ الْعِتَابَ مِنْ رَبِّ الأَرْبابِ، وإِنْ كانَ الدافعُ لهُ حُبُّهُ لِمَوْلاهُ والشَّوقُ للُقياهُ والرَغْبةُ فِي مُناجاتِهِ. وكانَتِ المُوَاعَدَةُ أَنْ يُوافِي هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجَهاءِ قَوْمِهِ، لِيَتَلَقَّوْا المنهاجَ الرَّبانيَّ، والدُّستورَ الإلهيَّ الذي يُنَظِّمُ لَهُمْ أُمُورَ دينِهِمْ ودُنْياهُمْ، فَسَارَ مُوسَى بِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَخَاهُ هارونَ أَنْ يسيرَ بهم خَلْفَهُ، وَيَلْحَقُونَهُ فِي مَكانِ المُنَاجَاةِ، وَعَجَّلَ هُوَ في السَّيْرِ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ، فَسَأَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا حَمَلَهُ عَلَى العَجَلَةٍ، وَتَرْكِ قَوْمِهِ في الطَّريقِ، وَلَامَهُ عَلَى أَنْ غَفَلَ عَنْ مُرَاعَاةِ مَا قَدْ يَحُفُّ بِذَلِكَ مِنْ مخاطِرَ لابْتِعَادِهِ عَنْ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَهُمُ اللهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَهْدِ، وَيُحَذِّرَهُمْ مَكْرَ مَنْ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مَكَرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبُ الإيمانِ" مِنْ طَرِيق عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((فَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ اللهُ: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}، قَالَ: فَرَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا فَعَجِبَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبُّ؟ قَالَ: لَا أُحَدِّثُكَ حَدِيثَهُ، لَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ بِثَلَاثٍ فِيهِ: كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ، وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)). "شُعَبُ الإِيمانِ" للبيهقي: (ج:23/ص: 2).
وَالْإِعْجَالُ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَاجِلًا. والعَجَلةُ في تَنْفيذِ الأُمُورِ الدّينِيَّةِ مَمْدوحةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آلِ عِمْرَانَ: {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتِ والأَرْضِ أُعِدَّتْ للمُتَّقينَ} الآيَةَ: 133، لَكنَّهَا مَذْمُومَةٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيا.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ لِقولٍ مَحذوفٍ مَعْطوفٍ عَلَى فِعْلٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: فَسَارَ مُوسَى إِلَى مَوْعِدِ المِيقَاتِ مَعَ قَوْمِهِ، فَجَاءَ وَحْدَهُ مُسْتَعْجِلًا، وَقُلْنَا لَهُ: "مَا أَعْجَلَكَ"؟. و "مَا" اسْمُ اسْتِفْهامٍ إنْكارِيٍّ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "أَعْجَلَكَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "مَا"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفعوليَّةِ. و "عَنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَعْجَلَ"، وَ "قَوْمِك" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قُلْنا"، وَجُمْلَةُ "قُلْنا" مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذوفَة الَّتي قَدَّرْناها آنِفًا.
قولُهُ: {يَا مُوسَى} يَا: أَداةُ نداءٍ للبعيدِ. وَ "مُوسَى" مُنَادَى مُفْرَدُ
العَلَمِ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، في محلِّ النَّصْبِ على النِّداءِ، وَجُمْلَةُ النِّداءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قُلْنَا".