وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} غَفَّارٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ "غَفَرَ"، أَيْ: وإِنِّي كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ وَكُفْرِهِ. وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 74، مِنْ سُورةِ المائدةِ فِي الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآيَةَ: 74، وقولِهِ مِنْ سُورَةِ الأَنْفالِ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الْآيَةَ: 38.
وقدْ أكَّدَ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، مَغْفِرَتَهُ للتائبينَ مِنْ عِبادِهِ بِمُؤَكِّداتٍ ثَلاثٍ: أَوَّلُها "إِنَّ"، واللامِ، وصيغةِ المُبالغَةِ، وذلكَ تَطْمِينًا لقَلْبِ عَبْدِهِ العاصي بِأَنَّ المَغْفرةَ حاصِلةٌ دونَ شَكٍّ مِنْهُ وَلا رَيبٍ، إِذَا ما صَحَّتِ التَّوْبَةُ. وَحَتَّى تَكونَ التَّوْبَةُ نَصُوحًا صَحِيحَةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ يَجِبُ أَنْ تَتَحَقَّقَ فِيها شُروطٌ ذَكَرَهَا العُلَماءُ، وهي:
1 ـ النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ منْ مَعصِيَتِهِ، والإقلاعُ عَنْها والعَزْمُ على عَدَمِ العودَةِ إليْها.
2 ـ هَجْرُ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَصُحْبَةُ الصَّالحِينَ.
3 ـ إِعادةُ الحقوقِ إلى أَصْحابها، أَوْ الحصولُ عَلَى السَّماحِ منْهُمْ.
4 ـ أَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعودَ إِلى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْصِيةٍ كَمَا يَكْرَهَ أَنْ يُلْقى في النَّارِ.
قَوْلُهُ: {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} وآمَنَ: باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وبالقَضاءِ خيرِهِ وشرِّهِ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى وبكُلِّ ما جاءَ مِنْ عندِ اللهِ ـ تَعَالَى. والعَملُ الصالحُ أبوابُهُ كثيرةٌ جِدًّا يَتَعَذَّرُ حَصْرُها، ويأْتي في مُقدَّمَتِها: شهادةُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا ـ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ. وَإقامُ الصَّلاة، وأداءُ الزَّكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ البيت مَنِ اسْتطاع إليْهِ سبيلًا، وبرُّ الوالدينِ، وصلةُ الأَرحام، والإحسانُ إلى خلقِ اللهِ أَجْمَعينَ لا سيما منهم المُسْلِمينَ، ومعاملتُهُم بِأَخْلاقٍ حَسَنَةٍ.
قولُهُ: {ثُمَّ اهْتَدَى} أَيْ: ثُمَّ اسْتَقَامَ وَثَبَتَ عَلَى ما ذُكِرَ مِنْ هُداهُ وهوَ التَّوْبَةُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَمْ يَنْكُثْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الْآيَةَ: 112، مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}، وَكما قَالَ مِنْ سورةَ: فُصِّلتْ: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} الآيةَ: 30، والْأَحْقَافِ، الآية: 13. وَسَأَلَ الصَّحابيُّ الجليلُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سيِّدَنا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ (وفي روايةٍ بعدك). فَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)). أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: (4/384)، والبُخاريُ في التاريخِ، وَمُسْلِمٌ في الإِيمانِ، بابُ "جامِعُ أَوْصافِ الإسْلامِ": (1/65، برقم: 38) والترمذيُّ، والنَّسَائِي فِي "السُّنَنِ الكُبْرَى": (برقم: 11489)، وابْنُ ماجةَ، وابْنُ حِبَّانَ، والبَغَويُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: (1/31). وغيرُهم.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "ثُمَّ اهْتَدَى" قَالَ: ثُمَّ اسْتَقَامَ لِفِرْقَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَ "ثُمَّ" حرْفُ عَطْفٍ لِلتَّرَاخِي، تَقُولُ: جاءَ زيدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، إِذا لَمْ يَكُنْ مَجيءُ عَمْرٍو بَعْدَ مَجيءٍ زيدٍ مُبَاشَرَةً، أَمَّا إِذا كانَ مَجِيءُ الثاني بعدَ الأَوَّلِ مُباشَرَةً فإنَّكَ تَسْتعْمِلُ الفاءَ فَتَقولُ: جاءَ زيدٌ فعمرٌ، أَمَّا هُنَا فَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ "ثُمَّ" للتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، فَقَدِ اسْتُعِيرَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّبَايُنِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْمَنْزِلَةِ. كَمَا كَانَتْ لِلتَّبَايُنِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فِي الْحُدُوثِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قالَ: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ" أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ. و "آمَنَ" قَالَ: وَحَّدَ اللهَ. و "عَمِلَ صَالِحًا" قَالَ: أَدَّى الْفَرَائِضَ. و "ثُمَّ اهْتَدَى" قَالَ: لَمْ يَشُكّ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْفِرْيَابِيُّ، عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ" الْآيَةَ، قَالَ: تَابَ مِنَ الذَّنْبِ "وَآمَنَ" مِنَ الشِّرْكِ، "وَعَمِلَ صَالحًا" فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، "ثمَّ اهْتَدَى" عَلِمَ أَنَّ لِعَمَلِهِ ثَوابًا يُجْزَى عَلَيْهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، أَوْ عاطِفَةٌ، وَ "إِنِّي" إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتوكيدِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، اسْمُهُ في محلِّ النَّصْبِ. و "لَغَفَّارٌ" اللامُ: هي المُزَحْلَقةُ للتوكيدِ، (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ). و "غَفَّارٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مرْفوعٌ بِها. و "لِمَنْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "غَفَّارٌ". وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "تابَ" فعلٌ ماضٍ مبْنِيٌّ على الفَتْحِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يعودُ على المَوصولِ "مَنْ" والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. وجملةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وأَعْرَبَها بَعْضُهُمْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ.
قَوْلُهُ: {وَآمَنَ} الواوُ: للعَطْفِ، و "آمَنَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يعودُ عَلَى الموصولِ "مَنْ". والجُملةُ مَعطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "تَابَ" عَلى كَوْنِها صلةَ المَوصولِ لا محَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {وَعَمِلَ صَالِحًا} الواوُ: للعطْفِ، و "عَمِلَ" معطوفٌ عَلى "آمَنَ" ولهُ مِثْلُ إعْرابِهِ. و "صالحًا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ؛ والتقديرُ: وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، أَوْ هوَ مَفْعُولٌ بِهِ، والجُملةُ معطوفةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ "آمَنَ" لا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {ثُمَّ اهْتَدَى} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرْتِيبٍ وتراخٍ. و "اهْتَدَى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلَى الفتْحِ المُقدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، والجملةُ معطوفةٌ عَلَى جملةِ "عَمِلَ" فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.