كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَقَالَ تعالى فِي الآيةِ: 57، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وَقال أَيْضًا مِنْ سُورةِ الْأَعْرَافِ: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، الآيَةَ: 160.
وَالأَمْرُ فيهُا جميعًا هُوَ لِلْإباحَةِ، وَالامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، وتعْدادِ نِعَمهِ ـ تباركتْ أَسْماؤُهُ، أَيْ: كُلُوا مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي رَزَقْتُكُمْ إِيَّاهُ ـ يَعنِي المَنَّ والسَّلْوَى. وَثَمَّةَ مَحْذُوفٌ هُنَا، والتَّقديرُ: وَقُلْنَا لَهُمْ: "كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ". وَ "طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" أَيْ: مِنْ لَذائِذِهِ، أَوْ حَلالَاتِهِ.
قولُهُ: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} وَالطُّغْيَانُ: تَجَاوُزُ الحَدِّ، وَأَشَدُّ الْكِبْرِ، أَيْ: وَلَا تَبْطَرُوا فِي نِعْمَتِي فَتَظْلِموا، وَلا تَجْحَدوهَا. وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ فِي الرِّزْقِ: يَعْني النَّهْيَ عَنْ تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَقِلَّةُ الِاهْتِمامِ بِعِبَادَةِ الْمُنْعِمِ، وَالتَّعَدِّي لِمَا حُدَّ فِيهِ كَالسَّرَفِ والبَطَرِ وَالمَنْعِ مِنَ المُسْتَحِقِّ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي "فيهِ" رَاجِعٌ إِلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ "مَا"، أَيْ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ الَّذِي رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْن عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْلهِ تَعَالَى: "وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ" قَالَ: الطُّغْيانُ فِيهِ: أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ حِلِّهِ.
وَقالَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي رِوَايَةِ الوَالِبي عَنْهُ: يَقُولُ: لَا تَظْلِمُوا. جامِعُ البَيَانِ للطَبَريِّ: (16/144)،
وَقَالَ مُقَاتِل بْنِ سُليمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في تَفْسِيرِهِ: وَلَا تَعْصُوا. وَقالَ أَيْضًا: لَا تَتَعَدَّوْا مَا حَدَّ اللهُ لَكُمْ فِي المَنِّ والسَّلْوَى فَتَتَجَاوَزُوا قَدْرَ مَا يَكْفِيكُمْ، وَتَدَّخِرُوا، فَمَتَى ادَّخَرْتُمْ مِنْهُمَا شَيْئًا فَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ طاغونَ. "تَفْسِيرُ مُقاتِلِ": (5 أ).
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ فَتَكُونُوا طَاغِينَ. "الكشف والبَيَانُ عنْ تَفْسيرِ القرآنِ" لأَحمد بْنِ محمَّدِ أَبو إسْحاق الثَّعْلَبِيَّ: (3/22 ب).
وَقِيلَ: المَعْنى لَا تَدَّخِرُوا مِنْهُ لِأَكْثَرِ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى "ولا تَطْغَوا فِيهِ" أَيْ: لا تُنْفِقُوا مِنْ نِعْمَتِي عَلَيْكمْ فِي مَعْصِيَتِكُمْ لِي.
وَاسْتعْمالُ "فِي" الظَّرْفِيَّةُ هُنَا فيهِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، حيثُ شَبَّهَ مُلَابَسَةَ الطُّغْيَانِ لِلنِّعْمَةِ بِحُلُولِ الطُّغْيَانِ فِيهَا، وذلكَ تَشْبِيهًا لِلنِّعْمَةِ الْكَثِيرَةِ بِالْوِعَاءِ الْمُحِيطِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الاسْتعارةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَقَرِينَةُ هَذِهِ الاسْتِعارة حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ "في".
قولُهُ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} حَلَّ بِمَعْنَى نَزَلَ، والمعنى: فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ غَضَبي وينزِلُ بِكمْ عَذَابي. قَالَهُ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَقالَهَ أَيْضًّا غَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرينَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ بسنَدٍ صحيحٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والطَّبريُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي" قَالَ: فَيَنْزِلُ عَلَيْكُمْ غَضَبِي.
ويُسْتَعْمَلُ هذا الفعلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَالْحُلُولُ بِالْمَكَانِ: النُّزُولُ وَالْإِقَامَةُ فِيهِ، فَقَدْ شَبَّهَ إِصَابَتَهم بآثَارِ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهمْ بِحُلُولِ الْجَيْشِ في دِيارِ قَوْمٍ وَنَحْوِهِ.
وَالْغَضَبَ صِفَةٌ وَصَفَ اللهُ بِهَا نَفْسَهُ المُقَدَّسَةَ، تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، إِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ. نُعَوْذُ بِاللهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، مِنْ غَضَبِهِ.
قولُهُ: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} أَيْ: وَمَنْ يَجبُ عَلَيْهِ غَضَبِي، وَيَنْزِلْ بِهِ فَقَدْ هَلَكَ وَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ "وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي" بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى تَفْسِيرِ: مَنْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَضَبي.
وَ "هَوَى" سَقَطَ مِنْ عَالٍ شَاهِقٍ. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ القارعَةِ: {فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ} الآيَةَ: 9، أَيْ: سَقَطَ مِنْ عُلْوٍ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْهَلَاكِ الَّذِي لَا نُهُوضَ بَعْدَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ:
هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا .......... وَمَاذَا يَوَدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَئُوبُ
وَالمُرَادُ هُنَا هُوَ الهُوِيٌّ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْهُوِيُّ مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ أَوْ ما شابَهَ ذَلكَ بِقَرِينَةِ التَّهْدِيدِ بِهِ.
رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: أَيْ: فَقَدْ شَقِيَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي مِجْلَزٍ فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي" قَالَ: إِنَّ غَضَبَهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِه يَدْعُوهُ فَيُكَلِّمُهُ.
وَقَالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: "فَقَدْ هَوَى" أَيْ: فَقَدْ هَلَكَ، أَيْ صَارَ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَهِيَ قَعْرُ النَّارِ، مِنْ هَوَى يَهْوِي هَوِيًّا أَيْ سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَهَوَى فُلَانٌ أَيْ مَاتَ.
ورَوَى ابنُ المُباركِ، وابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ شُفَيِّ بْنِ مَانِعٍ أَبُو عُثْمَانَ الْأَصْبَحِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ قَصْرًا يُرْمَى الْكَافِرُ مِنْ أَعْلَاهُ، فَيَهْوِي فِي جَهَنَّمَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الصَّلْصَالَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: "وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى". نَسْأَلُ اللهَ الكريمَ لنا ولكمُ العَفْوَ والعافيَةَ.
قولُهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا} كُلُوا: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّة، والأَلِفُ للتفريقِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كُلُوا"، و "طَيِّبَاتِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ الْقَوْلِ لقولٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: وَقُلْنَا لَهُمْ: "كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ". وَأَعْرَبَها بَعْضُهُمْ مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِبَيَانِ إِبَاحَةِ مَا ذُكِرَ لَهُمْ وَإِتْمامًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِم. و "مَا" موصولةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ.
قوْلُهُ: {رَزَقْنَاكُمْ} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِه مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةَ، والميمُ علامةُ الجَمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ: صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائد: مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ، مَا رَزَقْناكُمُوهُ.
قولُهُ: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} الواوُ: عاطِفَةٌ، وَ "لَا" ناهِيَةٌ جازِمَةٌ. وَ "تَطْغَوْا" فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حذْفُ حَرْفِ العلَّةِ "الأَلِفِ" مِنْ آخِرِهِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّة، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. و "فِيهِ" في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تطغَوْا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَة "كُلُوا" عَلَى كَوْنِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بِالْقَوْلِ، أَوْ على كَونِها مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ ـ كما تقدَّمَ بيانًهً.
قوْلُهُ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} الْفَاءَ: عاطَفةٌ، وهيَ هُنَا سَبَبِيَّةٌ،
وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ بَعْدَ النَّهْيِ وَهُوَ طَلَبٌ مَحْضٌ، و "يَحِلَّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدِ الفاءِ السَّبَبِيَّةِ، الواقِعَةِ في جَوَابِ النَّهْيِ. وَقالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "يَحِلَّ" مَجْزومًا عَطْفًا عَلَى "لَا تَطْغَوا"، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذِ المَعْنَى لَيْسَ عَلَى نَهْيِ الغَضَبِ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ. وَ "عَلَيْكُمْ" عَلَى: حَرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَحِلَّ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ تذْكيرِ الجَمعِ. و "غَضَبِي" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لانشِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكةِ المُناسِبةِ للياءِ. وهو مضافٌ، وياءُ المُتَكَلّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، مَعَ "أَنَّ" المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطوفٍ عَلى مَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا، مِنْ غَيْرِ سَابكٍ لِإِصْلاحِ المَعْنَى، والتَّقْديرُ: لَا يَكُنْ طُغْيَانُكُمْ فِيهِ فَحُلُولُ غَضَبِي عَلَيْكُمْ.
قوْلُهُ: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْع بالابْتِداءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ الجَوَابِ، أَوِ الشَّرْطِ، أَوْ هُمَا معًا. و "يَحْلِلْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ، عَلَى كَوْنِهِ فِعُلَ شَرْطٍ لَهَا. و "عَلَيْهِ" على: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَحْلِلْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "غَضَبِي" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لانشِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكةِ المُناسِبةِ للياءِ. وَهُوَ مُضَافٌ، وياءُ المُتَكَلّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جُمْلةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها منَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَقَدْ هَوَى} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا، لاقْتِرانِهِ بِـ "قد". و "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقِيقِ. و "هَوَى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورهِ على الأَلفِ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهَ جَوَابَ شَرْطٍ لَهَا، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ فَليسَ لَهَا مَحَلٌّ منَ الإعرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {مَا رَزَقْناكُمْ} بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ الأَخَوَانِ: (حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ)، وَخَلَفُ أَيضًا "مَا رَزَقَتُكُمْ" بِتَاءِ المُتكَلِّمِ الْمُفْرَدِ.
قرأ الجمهورُ: {وَلَا تَطْغَوْا} مِنْ "طغى، يَطْغَى"، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "وَلَا تَطْغُوا" ـ بِضَمِّ الغَيْنِ، مِنْ "طَغَا يَطْغُوا"، كَ "غَدا يَغْدُو".
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ} بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَرَأُوا وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي ـ بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُمَا فِعْلَا "حَلَّ"، يُقَالُ: "حَلَّ الدَّيْنُ" إِذَا آنَ أَجَلُ أَدَائِهِ. فَقِراءَةُ العَامَّةِ مِنْ حَلَّ عَلَيْهِ كَذَا، أَيْ: وَجَبَ عليْهِ، وَمِنْهُ قوْلُهُ تَعَالى في الآيَةَ: 196، مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وَمِنْهُ أَيْضًا قولُهُ مِنْ سورةِ الزُّمَرِ: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} الآيةُ: 40.
وَقَرَأَ الأَعْمَشُ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، والْكِسَائِيُّ "فَيَحُلَّ" بِضَمِّها فِي الْفِعْلَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَلَّ بِالْمَكَانِ يَحُلُّ إِذَا نَزَلَ بِهِ. وَمِنْهُ قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الرَّعْدِ: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّنْ دَارِهِمْ} الآيَةَ: 31.
والمَشْهُورُ أَنَّ فَاعِلَ "يَحلُّ" فِي القِراءَتَيْنِ هوَ "غَضَبِي". وَقيلَ إِنَّهُ مَفْعولٌ بِهِ، وَإِنَّ الفاعِلَ تُرِكَ لِشُهْرَتِهِ، وَالتَّقْديرُ: فَيَحِلُّ عَلَيْكُمْ طُغْيانُكم غَضَبِي، وَدَلَّ عَلَيْهِ "وَلَا تَطْغَوْا". وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى "غَضَبِي" فَيَصِيرَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِفِعْلِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُحْذَفُ المَفْعُولُ لِلدَّليلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ "العَذاب" ونَحْوِهِ. وَهَذا لأَنَّ الفعلَ "حَلَّ" مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ صاحِبِ اللوامِحِ، لِأَنَّهُ مِنَ "الإِحْلالِ" ـ كَمَا صَرَّحَ هُوَ بذلِكَ. وَإِذَا كانَ مِنَ "الإِحْلالِ" تَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ المُتَعَدَّى إِلَيْهِ: إِمَّا "غَضَبِي"، عَلَى أَنَّ الفاعِلَ ضَميرٌ عَائدٌ عَلَى الطُّغْيَانِ، كَمَا قَدَّرَهُ هوَ، وَإِمَّا مَحْذوفٌ، وَالفاعِلُ "غَضَبِي". وَفِي عِبَارَتِهِ هَذِهِ قَلَقٌ.
وَقرأَ الحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ الكِنْدِيُّ (مَوْلاَهُم)، فَوَافَقَ العامَّةَ في الحاءِ، والكِسائِيَّ وأَصْحابَهُ في اللَّامِ. قالَ الفَرَّاءُ: وَالكَسْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِأَنَّ الضَّمَّ مِنَ الحُلولِ، وَمَعْنَاهُ: الوُقُوعُ، وَ "يَحِلَّ" بِالكَسْرِ: يَجِبُ، وَجَاءَ التَفْسيرُ بِالوُجُوبِ، لَا بِالْوُقوعِ. كما قَرَؤُوا "يَحْلُلْ" بِضَمِّ اللامِ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يُقَالُ: "حَلَّ يَحِلُّ" إِذَا وَجَبَ، وَ "حَلَّ يَحُلُّ" إِذَا نَزَلَ. وَهُما لُغَتَانِ مُعْتَبَرَتَانِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفً: "لَا يَحِلَّنَّ عَلَيْكُمْ" بـ "لا" النَّاهِيَةِ وَكَسْرِ الحاءِ، وَفَتْحِ اللامِ مِنْ "يَحِلَّنَّ"، وَنُونِ التَّوْكِيدِ المُشَدَّدَةِ، أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا للطُغْيانِ فَيَحُقَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَهُوَ مِنْ بَابِ "لَا أُرَيَنَّكَ هَهُنَا".