جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} جَنَّاتُ: جمعُ "جَنَّةٍ"، والجَنَّةُ مِنْ الجَنِّ وهوَ السَّتْرُ، وجَنَّ الشَّيْءَ يَجُنُّهُ جَنًّا، إِذَا سَتَرَهُ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتِ "الجَنَّة" لأنَّها تَسْتُرُ أَهْلَهَا لِكَثَافَةِ أَشْجارِها وأَغْصانِها، ولأَنَّ أَهْلَها مَسْتورٌ فيها بعضُهُم عن بعضٍ فلا يَرَى بعضُهُمْ بعضًا إِلَّا تحتَ شجرةِ "طُوبَى"، أَمَّا قصورهُمْ ومَسَاكِنُهم فَلَا يَرَى أَحَدُهم مكانَ أَخِيهِ، وكلٌّ مِنْهُم يحسَبُ أَنَّ ما آتاهُ اللهُ مِنْ نِعَمٍ هوَ الأَعْظَمُ. وَكُلُّ شَيْءٍ سُتِرَ عَنْكَ فَقَدْ جُنَّ عَنَّكَ، وَجَنَّهُ اللَّيْلُ يَجُنُّهُ جَنًّا وَجُنُونًا، وَجَنَّ عَلَيْهِ يَجُنُّ جُنونًا، وَأَجَنَّهُ إِذا سَتَرَهُ، قالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ في الآيةِ: 76، مِنْ سورةِ الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} أَيْ فَلَمَّا سَتَرَهُ اللَّيْلُ، وجِنُّ اللَّيْلِ وَجُنُونُهُ وَجَنَانُهُ شِدَّةُ ظُلْمَتِهِ وَادْلِهْمَامُهُ، وَقِيلَ اخْتِلاطُ ظلامِهِ لِأَنَّ كُلَّهُ ساتِرٌ، قالَ الشَّاعِرُ الهُذَلِيُّ:
وَمَاءٌ وَرَدْتُ عَلَى جِفْنِهِ ...................... وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأَدْهَمُ
وقد سُمِّيَ بِهِ الجِنُّ لاسْتِتارِهم واخْتِفائهم عَنِ الأَبْصَارِ، وَسُمِّيَ بِهِ الجَنِينُ لِاسْتِتارِه في بَطْنِ أُمِّهِ، وقيلَ لمَنْ فقدَ عقلَهُ مجنونٌ لأنَّ حقائق الأمورِ مَستورةٌ عنْهُ فلا يُدْرِكُها.
و "جناتُ عَدْنٍ" جناةُ إِقامَةٍ، يَلْزَمُها سُكانُها فلا يَبْرَحُونَها أَبَدًا، ولا يَتَحَوَّلونَ عَنْهَا إلى غيرِها، ومَعْدِنُ الشَّيْءُ: أَصْلُهُ ومَركَزُهُ. ومنهُ يقالُ للنَّاقِةِ المُقِيمَةِ فِي المَرْعَى لا تَبْرَحُهُ "عَادِنٌ". وعَدَّانُ البَحْرِ: سَاحِلُهُ.
قولُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} خالدينَ فيها: أَيْ مُقيمينَ فيها لا يزولونَ عنها، فلا يَخْرُجونَ منها ولا يُخرَجُونَ. فهلَ بعدَ هذا الجَزاءِ مِنْ جَزاءٍ، وهَلْ بعدَ هذا النَّعِيمِ نعيمُ. ومَنْ أَعْظَمُ مِنَ اللهِ جَزاءً، ومَنْ أَجْزَلُ مِنْهُ عطاءً، فإنَّ العطاءَ إنَّما يكونُ عَلى قَدْرِ المُعطي. وَ "تَزَكَّى": تَطَهَّرَ مِنَ عُيوبِ نَفْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الشَّمْسِ: {قدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها} الآيَةَ: 9، أَيْ: طَهَّرَها. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الأَعْلَى: {قدْ أَفلَحَ مَنْ تزكَّى} الآيَةَ: 6، أَيْ: تَطَهَّرَ وَطَهَّرَ نَفَسَهُ وَخَلَّصَها مِنْ رُعوناتِها. والزَّكاةُ التي هي زَكاةُ الأَمَوالِ مَعُروفَةٌ والمُرادُ بِها تَطْهِيرُ المالِ، وَالفعلُ مِنْ زَكَّى يُزَكِّي تَزْكِيةً إِذَا أَدَّى زَكاةَ مَالِهِ، قالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ التَّوْبَة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآيَةَ: 103، أَيْ: تُطَهِّرُهُمْ، وَزَكَاةُ الشَّيْءِ: صفوتُهُ، وتَزَكَّى أَيْضًا: تَصَدَّقَ، والزَّكاةُ أَيْضًا: العمَلُ الصَّالِحُ لقَولِهِ تعالى في الآيَةِ: 81، مِنْ سُورةِ الكَهْف: {خَيْرًا مِنْهُ زَكاةً} أَيْ: خَيْرًا مِنْهُ عَمَلًا صَالِحًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ: {وحَنانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً} الآيَةَ: 13، أَيْ: وَتَزْكِيةً لَهُ، والزَّكاةُ الصَّلاحُ والتَّقْوَى، تَقُولُ: فلانٌ تَقِيٌّ زَكِيٌّ، أَيْ زاكٍ، والجمعُ: أَزْكِياءُ. وَزَكا زَكاءً، وزُكُوًّا، وَالزَّكاءُ: النَّمَاءُ وَالرَّيْعُ مِنْ زَكا يَزْكو زَكاءً وَزُكُوًّا، أَيْ: نَمَا، جَاءَ في حَديثِ سَيِّدِنا عَلِيٍّ أَميرِ المُؤمنينَ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ورضِيَ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: المَالُ تُنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الإِنْفاقِ، فاسْتَعَارَ لَهُ الزَّكاءَ وإِنْ كانَ معنًى وَلَمْ يَكُ ذَا جِرْمٍ، وَقَدْ زَكَّاهُ اللهُ، وَأَزْكاهُ، والزَّكاءُ مَا أَخَرَجَهُ اللهُ مِنَ الثَّمَرِ، وَهَذِهِ أَرْضٌ زَكِيَّةٌ، أَيْ: طيِّبَةٌ، وَيقالُ: زَكَا الزَّرْعُ، يَزْكو زَكاءً، وَأَزْكاهُ الله، إِذا نَمَا وَتَرَعْرَعَ، قالَ الشاعرُ منَ السَّريع:
والمالُ يَزْكو بِكَ مُسْتَكْبرًا .................... يَخْتَالُ قَدْ أَشْرَفَ للنَّاظِرِ
ويُقَالُ: زَكِيَ وتَزَكَّى، وَزَكَّاهُ اللهُ، أَيْ أَثْنَى عَلَيْهِ، وفلانٌ زَكَّى نَفْسَهُ تَزْكِيةً: أَيْ: مَدَحَ نَفْسَهُ ووَصَفَهَا وَأَثْنَى عَلَيْهَا. قالَ ـ جَلَّ جلالُهُ، مِنْ سورةِ النُّور: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا، وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} الآيةَ: 21، مَعْنَاهُ مَا صَلُحَ "وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ: أَيْ: يُصْلِحُ، وَأَصْلُ الزَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ الطَّهَارَةُ والنَّمَاءُ والبَرَكَةُ والثَّنَاءُ الحَسَنُ، وَوَزْنُها "فَعَلَةٌ" كَالصَّدَقَةِ فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الوَاوُ وانْفَتَحُ مَا قَبْلُهَا انْقَلَبَتْ أَلِفًا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} جَنَّاتُ: بَدَلٌ مِنَ {الدَرَجَاتُ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهَا، مَرْفوعَةٌ مِثْلُها، وَهُوَ مُضافٌ، وَ "عَدْنٍ" مَجْرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وقِيلَ: "جَنَّاتُ" خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَّقْديرُ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ. قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ التَقْديرُ: هِيَ جَنَّاتُ؛ لِأَنَّ "خالدين" حَالٌ. وَعَلَى هَذَا التَقْديرِ لَا يَكونُ فِي الكلامِ مَا يَعْمَلُ فِي الثّاني، وَعَلَى الأَوَّلِ يَكونُ العامِلُ فِي الحَالِ الاسْتِقْرارَ أَوْ مَعْنَى الإِشَارَةِ.
قوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تَجْرِي: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلى الياءِ. و "مِنْ" حرف جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَجْرِي"، وَ "تَحْتِهَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "الْأَنْهَارُ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةٌ لِـ "جَنَّاتُ".
قوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا} خَالِدِينَ: منصوبٌ على الحالِ مِنْ قولِهِ: {أُولئِكَ} مِنَ الجُملةِ التي قبلَها. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَالِدِينَ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ.
قَوْلُهُ: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} الوَاوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "ذَلِكَ" ذا: اسْمُ
إِشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، واللَّامُ للِبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "جَزَاءُ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ، وهوَ مُضافٌ. وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، و "تَزَكَّى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظُهُورِهِ على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "مَنْ"، والجُملةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوصولِ الحَرْفي "مَنْ".