فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى
(60)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ النَّازِعَاتِ: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى} الآيتانِ: (22 و 23). أَيْ: انْصَرَفَ فِرْعَوْنُ مُفَارِقًا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيُدَبِّرَ شَأْنَهُ ويُعِدَّ عُدَّتِهِ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي تَوَاعَدُوا لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ. فَقَدْ يَكُونُ التَوَلِّي انْصِرافًا، وَقَدْ يَكونُ إِعْرَاضًا، قَالَ مُقَاتِلٌ: "فَتَوَلَّى" أَيْ: أَعْرَضَ وَثَبَتَ عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الْحَقِّ.
قوْلُهُ: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} كَيْدَهُ: أَيْ: ذَوي كَيْدِهِ. فإِنَّ فيه حَذْفُ مضافٍ. والكَيْدُ: التَدْبِيرُ الخَفِيُّ للخَصْم، وَإِخْفَاءُ مَا بِهِ ضُّرُّ خَصْمِهِ إِلَى وَقْتِ فِعْلِهِ. وَلَيْسَ الكَيْدُ دَلِيلَ قُوَّةٍ، بَلْ هُوَ دَليلُ ضَعْفِهِ؛ وَعَدَمِ قُدرَتِهِ عَلى المُجَابَهَةِ الصريحَةِ الوَاضِحَةِ كِفَاحًا، كَالَّذي يَدُسُّ لِخَصْمِهِ السُّمَ سِرًّا بِسَبَبِ ضَعْفِهِ وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ، وعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلى مُوَاجَهَتِهِ ومجابهَتِهِ. وقدْ وَصَفَ تَعَالَى كَيْدَ النِّسَاءِ فَقَالَ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} الآيَةَ: 28، وَإِنَّمَا كانَ كيدهُنّ عظيم، لعظَمِ ضَعْفِهِنَّ. ووصَفَ كيدَ الشيطانِ بالضَّعفِ فقالَ مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} الآية: 76، بَيْنَمَا وَصَفَ مَا يَكيدُهُ هُوَ ـ سُبحانَهُ، وَمَا يُدَبِّرُ لِأَعْدائهِ بالقُوَّةِ والمَتَانَةِ والإِحْكامِ، فَقَالَ في الآيةِ: 183، مِنْ سُورَةِ الأَعْراف، والآيَةِ: 45، مِنْ سُورَةِ القَلَمِ: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ" ذَلِكَ لأَنَّهُ ـ جَلَّ وَعَزَّ، هوَ القويُّ المَتِينُ.
إِذًا: فقدْ جَمَعَ فرعَوْنُ كَيْدَهُ، أَيْ أَدَارَ فِكْرَهُ عَلَى أَلْوَانِ الكَيْدِ فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: "فَجَمَعَ كَيْدَهُ" السَّحَرَةُ وَسَائِرُ مَا يُجْمَعُ لِذَلِكَ، مِنْ آلَاتِ السِّحْرِ وأَدَواتِهِ، وَسَائِرِ مَا أَوْرَدَتْهُ السَّحَرَةُ منْ فنونٍ وأَسَالِيب، وما أَتْقَنَتْهُ وتَعَلَّمَتُهُ وتمَرَّستْ فِيهِ.
قوْلُهُ: {ثُمَّ أَتى} ثمَّ: تُفيدُ التَراخي، فإِمَّا أَنْ يكونَ المَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُسَارِعْ في الإتيانِ إِلى موعِدِهِ بَلْ أَتَاهُ بَعد لأْيٍ وَتَردُّدٍ. وَ "أَتَى" أَيْ: أَتَى بِنَفْسِهِ ومَلَئِهِ، وحاشِيَتِه، وَحَرَسِهِ، وَخَدَمِهِ وجَيْشِهِ مِنَ السَّحَرَةِ، وكانَ عَدَدُهم اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا ـ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِبالٌ وَعِصِيٌّ. وَقِيلَ كَانُوا أَرْبَعَمِئَةِ ساحِرٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فقدْ ذَكَرَ القُرطُبيُّ في تَفْسيرِهِ، قالَ: وَقِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: كانُوا مُجْتَمِعِين عَلَى رَئِيسٍ يُقَالُ لَهُ شَمْعُونُ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ يُوحَنَّا مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا، مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ عِشْرُونَ عَرِيفًا، مَعَ كُلِّ عَرِيفٍ أَلْفُ سَاحِرٍ. وَقِيلَ كانُوا ثَلاثَمِئَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الفيُّومِ، وَثَلَاثَمِئَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الصَّعِيدِ، وَثَلَاثَمِئَةِ أَلْفِ سَاحِرٍ مِنَ الرِّيفِ، فَصَارُوا تِسْعَمِئَةِ أَلْفٍ وَكَانَ رَئِيسُهُمْ أَعْمَى. ثُمَّ ضُرِبَتْ لِفِرْعَوْنَ قُبَّةٌ فَجَلَسَ فِيهَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ طُولُ الْقُبَّةِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَاللهُ أَعْلمُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّرْتيبِ، و "تَوَلَّى" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ عَلى الأَلِفَ. و "فِرْعَوْنُ" فاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "قَالَ" عَلى كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} الفاءُ: للعَطْفِ والترتيبِ. و "جَمَعَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ الظاهِرِ عَلى آخِرِهِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هوَ) يعودُ على "فرْعَوْن". و "كَيْدَهُ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ "تَوَلَّى" السَّابِقَةِ لَهَا فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {ثُمَّ أَتى} ثُمَّ: حَرْفٌ للعَطْفِ والتَّراخي. و "أَتَى" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ عَلى الأَلِفَ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلى "فرْعَوْن". والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ "جَمَعَ" السَّابِقَةِ لَهَا على كونِها معطوفةً على جملةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.