فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} أَيْ: كَلَامًا لَطِيفًا سَهْلًا رَقِيقًا، لَيْسَ فِيهِ مَا يُغْضِبُ وَيُنَفِّرُ. وقدْ بيَّنَهُ في الآيتَيْنِ: (17 و 18) منْ سُورَةِ النَّازِعَاتِ: حَيْثُ قَالَ: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}. وقالَ مِنْ سورةِ الكهْف: {وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى} الْآيةَ: 47.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، المَعْنَى: لَا تُعَنِّفَاهُ فِي قَوْلِكُمَا، وَارْفِقَا بِهِ فِي الدُّعَاءِ. عَلَّمَهُمَا خِطابَ الأَكَابِرِ ذَوِي الحِشْمَةِ؛ ففِرْعَونُ ـ وَإِنْ كانَ كافِرًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ سُلْطَانَ زَمَانِهِ، المُتَسَلِّطَ عَلَى عِبَادِ اللهِ. وكان أَحْسَنَ إِلَى مُوسَى حِينَ رَبَّاهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ رِفْقَهُ بِهِ بِمَثَابَةِ المُكافَأَةِ لَهُ على إِحْسَانِهِ إِليْهِ وَتَرْبِيَتِهِ.
وَالْقَوْلُ اللَّيِّنُ: هُوَ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى مَعَانِي التَّرْغِيبِ وَالْعَرْضِ وَاسْتِدْعَاءِ الِامْتِثَالِ، بِأَنْ يُظْهِرَ الْمُتَكَلِّمُ لِلْمُخَاطَبِ أَنَّ لَهُ مِنْ سَدَادِ الرَّأْيِ مَا يَتَقَبَّلُ بِهِ الْحَقَّ وَيُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَعَ تَجَنُّبِ أَنْ يَشْتَمِلَ الْكَلَامُ عَلَى تَسْفِيهِ رَأْيِ الْمُخَاطَبِ أَوْ تَجْهِيلِهِ.
وَاللِّينُ، مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَهُوَ: رُطُوبَةُ مَلْمَسِ الْجِسْمِ وَسُهُولَةُ لَيِّهِ، وَضِدُّهُ الْخُشُونَةُ. وَيُسْتَعَارُ اللِّينُ لِسُهُولَةِ الْمُعَامَلَةِ وَالصَّفْحِ. وَمنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ مخاطِبًا المَلِكَ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ:
فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ ................ عَلَى الْأَعْدَاءِ قَبْلَكَ أَنْ تَلِينَا
فَقد شَبَّهَ الْكَلَامَ الرقيقَ اللطيفَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْمَعَانِي الْحَسَنَةِ بِالشَّيْءِ اللَّيِنِ.
والفاءُ للعَطْفِ والتَرْتِيبِ، ترَتِّبُ مَا بَعْدَها عَلى مَا قَبْلَها، فَقَدْ رَتَّبَتْ هُنَا القَوْلَ اللَّيِّنَ عَلَى طُغْيَانِهِ، لِأَنَّ لِينَ القَوْلِ قْدْ يَكْسِرُ حِدَّةَ عِنَادِ العُاتي، ويَلَطِّفَ قَسْوَةَ الطَّاغِي، وَإِلانَةُ القَوْلِ يجِبُ أَنْ تَكونَ مِنْ صِفَاتِ الدَّاعِيَةِ إِلَى اللهِ، وطَريقتِهِ في اسْتِمَالَةِ القُلُوبِ القَاسِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النَّحْلِ مُخاطِبًا رَسولَهَ مُحَمَّدًا ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} الآيةَ: 125، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ لَا إِظْهَارُ الْعَظَمَةِ وَغِلْظَةَ الْقَوْلِ بِدُونِ جَدْوًى. فَإِذَا لَمْ يَنْفَعِ اللِّينُ مَعَ الْمَدْعُوِّ وَأَعْرَضَ وَاسْتَكْبَرَ جَازَ فِي مَوْعِظَتِهِ الْإِغْلَاظُ مَعَهُ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ العنكبوتِ: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآيةَ: 46، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قالَ حينَ لمْ ينفعِ الكلامُ اللَّيِّنُ: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} الآيةَ: 48، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ.
وَقِيلَ أُمِرا أَنَ يُكَنِّياهُ، وكانَ لَهُ أَرْبَعُ كُنَى: أَبُو الوَلِيدِ، وَأَبُو مُصْعَب، وأَبُو العَبَّاس، وَأَبُو مُرَّةَ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَمِيرِ المُؤمنينَ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا" قَالَ: كَنِّهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا" قَالَ: كَنِّيَاهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا" قَالَ: كَنِّياهُ يَا أَبَا مُرَّةَ.
وَقِيلَ: عِدَاهُ شَبَابًا لَا يَهْرَمُ بَعْدَهُ، وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ وأَنْ يَبْقَى لَهُ لَذَّةُ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ وَالمَنْكَحِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، فإِذَا ماتَ دَخَلَ الجَنَّةَ. قَالَ: فَكَأَنَّما أَعْجَبَهُ ذَلِكَ، ولكنَّهُ كانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَ مَشورةِ هامَانَ وزيرِهِ، وكانَ هَامَانُ يومَها غائبًا عَنْ مِصْرَ، فَأَرجَأَ فِرْعَوْنُ البَتَّ في الأَمْرِ حَتَّى يَستشيرَهُ. فَلَمَّا حضَرَ هامَانُ أَخْبَرَهُ فِرْعَوْنُ بالذي دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى. وأنَّهُ أَعْجَبَهُ ما عَرَضَ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ هامَانُ: أَتُريدُ أَنْ تَعْبُدَ غَيْرَكَ وَأَنْ تَكونَ مَرْبُوبًا، بَعْدَ إِذْ أَنْتَ ربٌّ يُعْبَدُ، فغلَبَهُ على رأْيِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإمامِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا" قَالَ اعْذُرَا إِلَيْهِ، وَقولَا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا، وإِنَّ لَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنارًا، فَآمِنْ بِاللهِ تَعَالَى يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ، وَيَقِكَ عَذَابَ النَّارِ.
وَقِيلَ: أَمَرَهُمَا ـ سَبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِأَنْ يُقَدِّمَا لَهُ الوَعْدَ عَلَى الوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ قَوْلٍ.
ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ القَوْلَ اللَّيِّنَ هو: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلِينُهُ خِفَّتُهُ عَلَى لِسَانِ قالِهِ. وهوَ بَعِدٌ، والأَقْرَبُ إلى الصَّوابِ هوَ الأَوَّلُ، واللهُ أَعْلَمُ.
وَيَشْمَلُ هَذا الخِطَابُ كُلَّ مِنْ يريدُ أَنْ يدْعُوَ النَّاسَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَاللَّطْفُ بِخَلْقِ اللهِ والرَّحْمةُ بهِمْ مِما أَوْدَعَهُ اللهُ في قُلُوبِ المُرْسَلِينَ، وَمَثَلُهُمْ مَعَ عِبَادِ اللهِ كَمَثَلِ الطَّبِيبِ مَعَ مَرْضَاهُ، يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ، وَيَرْحَمُهُمْ، وَيُقَدِّرُ ظُرُوفَهُمْ وَحَالَهُمُ الذي هُمْ فَيهِ، كَمَا قالَ اللهُ تَعَالىِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدًا ـ عَلَيْهِ أَزْكَى الصَّلاةِ وأَكْمَلُ السَّلامِ، مِنْ سُورةِ آلِ عِمْرَانَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} الآيةَ: 159.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَّاشِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ كانَ يَقولُ إِذا تَلا هَذِهِ الآيةَ الكريمةَ: يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟ وَأَنشدَ في هَذا المَعْنَى أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ:
وَلَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَغَى ..................... وَقَالَ عَلَى اللهِ إِفْكًا وَزُورًا
أَنَابَ إِلَى اللهِ مُسْتَغْفِرًا ......................... لَمَا وَجَدَ اللهَ إِلَّا غَفُورًا
وَقيلَ: قُرِئَتْ هَذِهِ الآيةُ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعاذٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَبَكَى، وَقَالَ: إِلَهِي هَذَا رِفْقُكَ بِمَنْ يَقُولُ (أَنَا الإِلَهُ)، فَكيْفَ رِفْقُكَ بِمَنْ يَقُولُ (أَنْتَ اللهُ؟).
قولُهُ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} قالَ كبارُ النَّحْوِيينَ كَسِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ: "لَعَلَّهُ": مَعْنَاهُ عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا، فَالتَّرَجِّي، وَالتَّوَقُّعُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِـ "لَعَلَّ" هنا رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْبَشَرِ. قَالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: "لَعَلَّ" في اللُّغَةِ: تَرَجٍّ وَطَمَعٌ، فَأَنْتَ تَقُولُ: لَعَلِّي أَصِيرُ إِلَى خَيْرٍ. فَقَدْ خَاطَبَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عِبَادَهُ بِمَا يَعْقِلونَهُ. ثُمَّ قالَ: وَالمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعْكُمَا.
وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: وَمَذْهَبُ الفَرَاءِ فِي هَذَا: كَيْ يَتَذَكَّرَ. وَالْعِلْمُ مِنَ اللهِ تَعَالَى مِنْ وَرَاءِ مَا يَكونُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى، إِلَّا أَنَّ الحُجَّةَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالآيَةِ وَالبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا تُبْعَثُ الرُّسُلُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا تَدْرِي أَيُقْبَلُ مِنْهَم، أَمْ لَا، وَهُمْ يَرْجُونَ وَيَطْمَعُونَ أَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى "لَعَلَّ" مُتَصَوَّرٌ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى تَصَوُّرِ ذَلِكَ تَقُومُ الحُجَّةُ.
وَ "يَتَذَكَّرُ" أَيْ: يَتَفكَّرُ ويَتَأَمَّلُ، في أَمْرِ الخَلْقِ والتَّكْوينِ، لعلَّهُ يتوصَّلُ إلى النَّصَفَةِ مِنْ نَفْسِهِ، والإِذْعَانِ لِلْحَقِّ الواضِحِ الجَلِيِّ فَيَحملُهُ ذَلِكَ عَلَى الإيمانِ باللهِ تَعَالى الخالقِ القادِرِ العَلِيمِ العَظيمِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَعَلَّه يَتَذَكَّرُ" قَالَ: هَل يَتَذَكَّرْ.
وَالتَّذَكُّرُ: مِنَ الذُّكْرِ ـ بِضَمِّ الذَّالِ، أَيِ: النَّظَرِ، أَيْ: لَعَلَّهُ يَنْظُرُ نَظَرَ الْمُتَبَصِّرِ فَيَعْرِفُ الْحَقَّ، أَوْ يَخْشَى حُلُولَ الْعِقَابِ بِهِ، فَيُطِيعُ عَنْ خَشْيَةٍ إِنْ لَمْ يَطِعْ عَنْ تَبَصُّرٍ وتَدَبُّرٍ.
وَقَد كانَ فِرْعَوْنُ مِنْ العُتَاةِ أَهْلِ التَكَبُّرِ والتَجَبُّرِ والطُّغْيَانِ، وَكانَ يعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، فَتَذَكُّرُهُ: هُوَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، وإنَّما هُوَ عَبدٌ مخلوقٌ مِنْ جُمْلةِ ما خَلَقَ الإلهُ العَظِيمُ.
وَقِيلَ: لعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ نَفْسَهُ يَوْمَ احْتُبِسَ النِّيلُ فَسَارَ إِلَى شَاطِئِهِ وَأَبْعَدَ وَخَرَّ للهِ سَاجِدًا رَاغِبًا إلى اللهِ أَنْ لَا يُخْجِلَهُ، ثُمَّ رَكِبَ فَأَخَذَ النِّيلُ يَتْبَعُ حَافِرَ فَرَسِهِ، لعَلَّهُ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ كَرَمِ اللهِ تَعَالَى وحلمِهِ.
"أَوْ يخشى" مِنْ أَنْ يَكونَ الأَمْرُ كَمَا وَصَفَاهُ لَهُ رَسُولَا اللهِ َتَعَالَى: مُوسَى وَهَارُونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَيَجُرُّهٌ كُفرُهُ بما أَتَيَاهُ بِهِ، وَإِنْكارُهُ الحَقَّ إِلَى الهَلَكَةِ وذَهابِ المُلْكِ. وَالْخَشْيَةُ: أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ فَيَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ بِالْأَخْذِ بِمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى.
وَفي هذَهِ الآيَةِ الكريمةِ المُبارَكَةِ دَليلٌ عَلى اسْتِحْبابِ إِلَانَةِ القَوْلِ للظَّالِمِ إِذا أردْتَ أَنْ تَعِظَهُ. وَعِنْدَهَا يَنْتَهَي تَكْلِيمُ اللهِ تَعَالَى كليمَهُ وَرَسُولَهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فَقُولَا: الفاءُ: للعطْفِ والترتيبِ، و "قَوْلًا" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حَذِفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وأَلِفُ التَثْنِيَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، و "لَهُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَوْلا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "قَوْلًا" مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ منصوبٌ. و "لَيِّنًا" صِفَتُهُ منصوبةٌ مِثْلُهُ. وَالجُمْلَةُ: مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {اذْهَبَا} مِنَ الآيةِ الَّتي قبلَها عَلى كَوْنِهَا جملةً مَعْطُوفَةً عَلَى جُملَةٍ مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} لَعَلَّهُ: لَعَلَّ: حرفٌ ناصِبٍ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، وَ "يَتَذَكَّرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى فِرْعوْنَ، والجملةُ في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لعلَّ". وجُمْلَةُ "لَعَلَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "أَوْ" حَرْفُ عطْفٍ للتنويعِ، و "يَخْشَى" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتعَذُّرِ ظهورِها على الألِفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى فِرْعوْنَ، والجملةُ مَعْطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ "يَتَذَكَّرُ" عَلَى كَوْنِهَا جملةً مُسْتَأْنفةً لا مَحَلٌّ لها مِنَ الإعْرابِ. وفي "لَعَلَّ" أَوْجُهٌ:
أَحَدُهُا: أَنَّها عَلى بابِهَا مِنَ التَّرَجِّي، وَذَلِكَ بِالْنِسْبَةِ إِلَى المُرْسَلِ، الذي هُوَ مُوْسَى وَهَارُونَ، والتقديرُ: اذْهَبَا عَلَى رجائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا فِي إِيمَانِهِ، أَيْ: اذْهَبَا مُتَرَجِّيَيْنِ طامِعَيْن، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَلَا يَسْتقيمُ أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ عالِمٌ بِعَوَاقِبِ الأُمُورِ، وَعَنْ سِيبَوَيْهِ: كُلُّ مَا وَرَدَ فِي القُرْآنِ مِنْ "لَعَلَّ" و "عَسَى" فَهُوَ مِنَ اللهِ وَاجِبٌ، يَعْنِي أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ بَقَاءُ مَعْنَاهُ فِي حَقِّ اللهِ ـ تَعَالَى.
والثاني: أَنَّ "لَعَلَّ" بِمَعْنَى "كَيْ" فَتُفِيدُ العِلَّةَ. وهَذا قَوْلُ الفَرَّاءِ، قالَ: كَمَا تَقُولُ: اعْمَلْ لَّعَلَّكَ تَأْخُذُ أَجْرَكَ، أَيْ: كَيْ تَأْخَذَ أجركَ.
والثالثُ: أَنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَيْ: هَلْ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى؟ وَهَذَا بعيدٌ سَاقِطٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتحيلُ الاسْتِفْهامُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَسْتَحِيلُ في حقِّهِ التَّرَجِّي. فإِذَا كانَ لَا بُدَّ مِنَ التَأْويلِ فَجَعْلُ اللَّفْظِ بَاقِيًا عَلَى مَدْلُولِهِ أَوْلَى مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنْهُ.
قرَأَ الجُمهورُ: {قولًا لَيِّنًا} وَقَرَأَ أَبُو مُعَاذٍ "قَوْلًا لَيْنًا" وَهُوَ تَخْفِيفٌ، مِنْ قولِكِّ "لَيْنٍ" كَ "مَيْتٍ" في "مَيِّتٍ".