إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} أَيْ: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ حِينَ خافَتْ عَلَيْكَ عَدُوَّكَ، وَتَحَيَّرَتْ فِي أَمْرِكَ، كَيْفَ تَخْفِيكَ عَنْ أَعْيُنِ فِرْعَونَ ورِجالِهِ لأَنَّ المُنَجِّمينَ تَنْبَّؤُوا لَهُ بِأَنَّ طفلًا سَيُولَدُ هَذا العامِ في بَني إِسْرَائِيلَ يكونُ ذهابُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ كلِّ الأطفالَ الذينَ سَيُولَدُونَ لِبَني إِسْرائيلَ في ذلكَ العامَ، فَأَوْحى اللهُ إِلَيْهَا. قَالَ بَعْضُ المُفسِّرينَ: كانَ هذا الوَحْيُ رُؤْيَا مَنَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الآخَرُ: كَانَ بِوِسِاطَةِ مَلَكٍ، فَكَلَّمَهَا بِذَلِكَ.
و "إِذْ" هُنَا هيَ ظَرْفٌ لِزمانِ الْمِنَّةِ المَذْكورَةِ بَقَوْلِهِ تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} الآيَةِ: 37، السابقةِ، ووقتِ حُصُولِهَا.
وَ "أَوْحَيْنا" أَلْهَمْنا، فهوَ وحيُ إلهامٍ كَما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآيةَ: 68، وَهْوَ هُنَا: وَحْيُ الْإِلْهَامِ الصَّادِقِ. وَالإلْهامُ: إِلْقَاءُ مَعْنًى فِي خَلَدِ النَّفْسِ الْمُلْقَى إِلَيْهِ تَرْتَاحُ لَهُ نَفْسُهُ بِحَيْثُ يَجْزِمُ بِنَجَاحِهِ فِيهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الوحيُ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ وَقْتِهَا، فيكونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةَ: 111. مِنْ سُورَةِ المائدَة: {وإذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} فقدْ كانَ عَنْ طَريقِ نبيِّهِمْ عيسَى ـ عَليْهِ السٍّلامُ.
وَقَدْ يَكُونُ هَذا الوَحْيُ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، وَيُقْذَفُ اللهُ تَعَالى فِي نَفْسِ الرَّائِي أَنَّ رُؤْياهُ حقٌّ وَصِدْقٌ. فَيَطْمَئِنُّ لَهَا قَلْبُهُ.
وَذكرَ القرطبيُّ أَنَّ عبدَ اللهِ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: أَوْحَى إِلَيْهَا كَمَا أَوْحَى إِلَى النَّبِيِّينَ. واللهُ أَعْلَمُ.
وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِيحَاءِ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ أَنْ يَكُونَ الْمُوحَى إِلَيْهِ نَبِيًّا، والمَعْنَى: أَلْهَمْنَاهَا حِينَ عَيَتْ بِأَمْرِكَ، بِلُطْفِ إِلْهامِنَا إِيَّاها مَا كانَ فِيهِ سَبَبُ نَجَاتِكَ مِنَ القَتْلِ.
وَ "مَا يُوحى" أَيْ: مَا يُلْهَمُ، وهو "ما" مَوْصُولٌ مُفِيدٌ أَهَمِّيَّةَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهَا. وَتَأْكِيدُ كَوْنِهِ إِلْهَامًا مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى.
قوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} إِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ مُفِيدٌ للتَّعْلِيلِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَنَنَّا"، أَيْ: مَنَنَّا عَلَيْكَ فِي وَقْتِ إِيحائنا إِلَى أُمِّك. وَ "أَوْحَيْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيُّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوْحَيْنَا" وَ "أُمِّكَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ لِـ "أَوْحَيْنَا". وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً. وَالجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ لِـ "إِذْ". وَ "يُوحَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، مبنيٌّ على الضَّمِّ المقدَّرِ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ، وَنائبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ تَقْديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَا"، والجملةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ وهِيَ تُفِيدُ الإِبْهَامَ، وهذا الإِبْهامُ للتَّعْظيمِ كَما هوَ في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ (طه): {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} الآيةَ: 78.