كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} نَسَبِّحَكَ: أَيْ: نُنَزِّهُكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِكَ وَجَمَالِكَ مِنْ صِفَاتٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ: مَا يَدَّعِيهِ فِرْعَوْنُ الطَّاغِيَةُ، وَتَقْبَلُهُ مِنْهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ مِنِ ادِّعَائهِ الشَّراكَةَ فِي الأُلُوهِيَّةِ. وَفَسَّرَ الإمامُ الكَلْبِيُّ التَسْبيحَ بِالصَّلاةِ، قَالَ: "كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا" يَقولُ: كَيْ نُصَلِّي لَكَ كَثِيرًا. وَ "كَثِيرًا" وَصْفٌ لِمَصْدَرٍ، أَوْ زَمَنٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: تَنْزيهًا كَثيرًا، أَوْ زَمَنًا كَثِيرًا.
وَقِيلَ: المُرادُ بِكَثْرَةِ التَّسْبِيحِ والذِّكْرِ مَا يَكونُ مِنْها فِي تَضَاعِيفِ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَدَعْوَةِ المَرَدَةِ العُتَاةِ، لِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، هوَ الذي لا يَخْتَلِفُ فِي حَالَتَيِ التَّعَدُّدِ والانْفِرادِ، فإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْدُرُ مِنْهُ، بِتَأْييدِ الآخَرِ، مِنْ إِظْهَارِ الحَقِّ، مَا لَا يَصْدُرُ مِنْهُ حَالَ الانْفِرادِ. وَالأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وهَذِهِ هيَ الغَايَةُ مِنَ الأَدْعِيَةِ السَّابِقَةِ، أَيْ قَوْلِهِ: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} إِلى قولِهِ: {وأَشْرِكْهُ في أَمْرِي}، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا شَكَّ فيهِ أَنَّ الاجْتِمَاعَ عَلَى العِبَادَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ دَوَامِهَما، لِذَلِكَ جاءَ الأَمَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمُلازَمَةِ جماعةِ المُسَبِّحِينَ الذَّاكِرينَ العَابِدينَ، بِقولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} الآيةَ: 28. وَقدْ رَغَبَ الرسُولُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، في ذلِكَ وَحَثَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيمَنْ عِنْدَهُ ))، وهذا جزءٌ مِنْ حديثٍ طويلٍ أَخرجَهُ الأَئمَّةُ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ونَصُّهُ: قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (8/541 (26108) و (9/85 (26558). وأَحْمَدُ (2/252 (7421) و (2/325 (8299) و (2/406 (9263) و (2/514 (10687)، والدارِمِيُّ: (344)، ومسلم: (6952 و 6953)، وأبو داود: (1455 و 3643 و 4946)، وابْنُ مَاجَةَ: (225 و 2417 و2544)، والتِّرمِذيُّ: (1425 و 2646 و 2945)، والنَّسائيُّ فِي "الكبرى": (7245 و 7247 و 7248)، وابْنُ حِبَّان: (84) و (534) و 768 و 5045). وَفِي الحَديثِ الشريفِ أيْضًا: ((يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ)) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (4/466، رقم: 2166) مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، وَقَالَ: حَسَنٌ غَريب.
وَلِذَلِكَ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي الاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ: وَالجَماعِةِ فِي الصَّلاةِ ليَتَقْوَّى الضَّعيفُ بِالْقَوِيِّ، وَالكَسْلانُ بِالنَّشِيطِ، فقد عَلَّلَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ، بِأَنْهُ إِنَّما سَأَلَ ما سَأَلَ لِيُسَبِّحَا اللهَ كَثِيرًا وَيَذْكُرَاهُ كَثِيرًا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ تَسْهِيلًا لِلقيامِ بِالدَّعْوَةِ حقَّ القيامِ بِوُجُودِ الْمُعينِ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيمَا سَأَلَهُ لِأَخِيهِ إِشْراكُهُ فِي الدَّعْوَةِ إلى اللهِ ـ تَعَالى، لِيَكونَ ذَلِكَ باعِثًا لَهُ عَلَى النَّشَاطِ في الدَّعْوَةِ.
وَتَشْتَمِلُ دَعْوَتُهُمَا عَلَى التَّعْرِيفِ بِصِفَاتِ اللهِ ـ تَعَالى، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ كلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ المُقَدَّسَةِ العَلِيَّةِ، وَالحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، لِعِبَادَهُ، وأَوَامِرهِ وَنَوَاهِيهِ، وَإِدْخَالِ الْأُمَّةِ إلى حِصْنِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَفِي ذَلِكَ إِكْثَارٌ مِنْ تَسْبيحِ اللهِ وذِكْرِهِ، وَهوَ ما توجَّهُ الأمرُ الإِلهيُّ بهِ بعدَ ذلكَ بِقَوْلِهِ: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي} الآيةَ: 42، ومعنى {لَا تَنِيَا} لَا تَضْعُفَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَ فِي تَحْصِيلِ مَا دَعَا بِهِ رَبَّهُ الإِكْثَارُ مِنْ تَسْبِيحِهِمَا للهِ وَذِكْرِهِمَا لَهُ.
وَالَّذِي أَلْجَأَ مُوسَى إِلَى سُؤَالِ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِشِدَّةِ فِرْعَوْنَ وَطُغْيَانِهِ وَمَنْعِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مُفَارَقَةِ ضَلَالِهِمْ، فَعُلِمَ أَنَّ فِي دَعْوَتِهِ فِتْنَةً لِلدَّاعِي فَسَأَلَ الْإِعَانَةَ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ تِلْكَ الْفِتْنَة ليتوفّرا لِلتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ كَثِيرًا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} كَيْ: حَرْفُ نَصْبٍ وَمَصْدَرٍ وتعليلٍ. و "نُسَبِّحَكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِـ "كَيْ"، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ـ عليهِما السَّلامُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ. و "كَثِيرًا" صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: تَسْبِيحًا كَثِيرًا. أَوْ هوَ صِفَةٌ لِزَمَانٍ مَحْذوفٍ والتَقديرُ: زَمَانًا كَثيرًا، وإِذًا فَهُوَ مَفْعولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ مَفْعُولٌ فِيهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "كَيْ" المَصْدَرِيَّةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "كَيْ" مَعَ صِلَتِهَا: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِلَامِ التَّعْلِيلِ، عَلَّلَ بِهَا كُلًّا مِنَ الأَفْعَالِ الثَّلاثَةِ الأَخِيرَةِ: {وَاجْعَلْ} وَ {اشْدُدْ} وَ {أَشْرِكْ} والتقديرُ: اجْعَلْهُ وَزيرًا لِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي لِتَسْبِيحِنَا إِيَّاكَ تَسْبِيحًا كَثِيرًا، أَوْ زَمَانًا كَثِيرًا. وَيَجُوزُ عندَ سِيبَوَيْهِ أنْ يكونَ "كَثِيرًا" نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، أَوْ حالًا مِنْ ضَمِيرِ المَصْدَرِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبي النُّجُودِ أَنَّهُ قَرَأَ {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَّثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُّنْتَ بِنَا بَصَيرًا} بِنَصْبِ الْكَافِ الأُولَى فِيهنَّ كُلِّهِنَّ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّهُ كَانَ يَجْزِمُ هَذِهِ الكَافاتِ كُلِّهَا. واللهُ أعلمُ.