يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} الْفِقْهُ: فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هو الْفَهْمُ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِعِيسَى بْنِ عُمَرَ: شَهِدْتُ عَلَيْكَ بِالْفِقْهِ. ومِنْهُ يَقُولُونَ: فَقِهَ الرَّجُلُ ـ بِالْكَسْرِ، وَتقولُ: فُلَانٌ لَا يَفْقَهُ وَلَا يَنْقَهُ، أَيْ: لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا يَفْهَمُ شَيْئًا. وَنَقِهْتُ الحَديثَ، أَنْقَهُهُ إِذَا فَهِمْتَهُ، وبابُهُ (فَرِحَ). كما تقولُ: أَفْقَهْتُكَ الشَّيْءَ، إذا علَّمتَهُ إِيَّاهُ وأَفْهَمْتَهُ مَعْنَاهُ. ثُمَّ خُصَّ بِهِ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ، وَسُمِّيَ الْعَالِمُ بِهِ فَقِيهًا. وَقَدْ فَقُهَ الرَّجُلُ ـ بِالضَّمِّ، فَقَاهَةً، وَفَقَّهَهُ اللهُ، وَتَفَقَّهَ، إِذَا تَعَاطَى ذَلِكَ. وَفَاقَهْتُهُ إِذَا بَاحَثْتُهُ فِي الْعِلْمِ.
والمَعْنَى: يَفْهَمُوا مَا أَقولُ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِيَفْهَمَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ حِينَمَا يذْهَبُ إليهم لِيُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، الَّتِي أَمَرهُ اللهُ تَعَالى تَبْلِيغَهُمْ إِيَّاها.
وأَخْرَجَ ابنُ أَبي حَاتِمٍ فِي تَفْسيرِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القَرَظِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، أَنَّهُ أَتاهُ ذُو قَرَابَةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا بِكَ بَأْسٌ، لَوْلَا أَنَّكَ تَلْحَنُ فِي كَلَامِكَ، وَلَسْتَ تُعْرِبُ فِي قِراءَتِكَ، فَقَالَ القُرَظِيُّ: يِا بْنَ أَخِي: أَلَسْتُ أُفْهِمُكَ إِذَا حَدَّثْتُكَ؟. قَالَ: نَعَم، قَالَ: فإنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِنَّما سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسانِهِ كَيْ يَفْقَهَ بَنُو إِسْرائيلَ كَلَامَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا.
وهذا هُوَ جَوَابُ الطَّلَبِ، وَالغَرَضُ مِنَ الدُّعاءِ الذي رَفعَهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلى مولاهُ ـ جَلَّ جلالُهُ العَظيمُ. وَقَدْ جُزِمَ هذا الفِعْلُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ الكريمِ الْمُتَّبَعَةِ فِي جَعْلِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاصِلِ عَقِبَ الشَّرْطِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ فِي الآيَةِ: 30، مِنْ سُورَةِ النُّور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ}، أَيْ أَنْ نَقُلْ لَهُمْ غُضُّوا يَغُضُّوا، أَيْ أَنَّ الِامْتِثَالَ شَأْنُهُمُ.
قولُهُ تَعالى: {يفقهوا قولي} يفقهوا: فِعْلُ مُضارعٌ مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذِفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. وَ "قَوْلي" مَفْعولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المُناسِبَةِ للياءِ، وهوَ مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلةُ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ غَيْرُ مُقْتَرِنَةٍ بِالفاءِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، والتقديرُ: إِنْ تَحْلُلْ عُقْدَةَ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي.