وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} تِلْكَ: هِيَ بِمَعْنَى: (هَذِهِ) عِنْدَ الفَرَّاءِ. وَ "بِيَمِينِكَ" صِلَةٌ لِـ "تِلْكَ" ـ فِي مَذْهَبٍ، لِأَنَّ "تِلْكَ" وَ "هَذِهِ" تُوصَلَانِ كَمَا تُوصَلُ "الذي". كَمَا يَأْتي "ذَلِكَ" بِمَعْنَى هَذَا. وَهِيَ اسْمٌ مُبْهَمٌ يَجْرِي مجْرَى "الَّتي"، عِنْدَ الزَّجَّاجِ أَبي إِسْحاقٍ، وَالمَعْنَى عِنْدَهُ: مَا الَّتي بِيَمِينِكَ؟.
وسُؤالُهُ تَعَالى نَبِيَّهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنِ العَصَا الَّتي كانَتْ فِي يَدِهِ المُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَنَبِّهَهُ إِلى مَا سَوْفَ يَقَعُ لهُ فِي هَذِهِ العَصَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزاتٍ بَعْدَ التَثْبِيتِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. فقد كانَ عَالِمًا بِمَا فِي يَدِهِ ـدونَ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، وَلَكِنَّ الحِكْمَةَ في هَذَا السُّؤالِ إِزالَةُ الوَحْشَةِ عَنْ نفسِ مُوسَى، لِأَنَّهُ ـ عليْهِ السَّلامُ، كانَ مُسْتَوْحِشًا في ذلكَ الوادي واللَّيْلِ البهيمِ خائِفًا كَمَنْ دَخَلَ عَلى مَلِكٍ عظيمِ الهَيْبَةِ والجَلَالِ، فَإِنَّ مُحادَثَةَ الملِكِ إِيَّاهُ مِنَ المُلاطَفَةِ والمُؤانَسَةِ، وإِنَّ سُؤَالَ المَلِكِ لَهُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ، يُزيلُ عَنْهُ بَعْضَ مَا يَجِدُ في نفسِهِ مِنْ وَحْشَةٍ وخَوْفٍ، فَيَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ السُّؤالِ، وَيُسْكُنُ بَعْضَ مَا بِهِ مِنْ بَوَادِهِ الإِجْلالِ، وَتَسْرِي الطُّمَأْنِينَةُ إلى نَفْسِهِ بِتِلْكَ المُبَاسَطَةِ، لِأَنَّهُ كانَ قدْ صَحِبَتْهُ هَيْبَةُ المَقامِ عِنْدَ فَجْأَةِ سَمَاعِ الخِطابِ، وَلَوْ تَرَكَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَاتِ الهَيْبَةِ، لَعَلَّهُ كَانَ لَا يَعِي وَلَا يُطِيقُ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ: "وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يِا مُوسَى؟. فَرَدَّهُ إِلى سَمَاعِ حَديثِ العَصَا، وَأَرَاهُ مَا فِيها مِنَ الآياتِ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إِنَّمَا سَأَلَهُ تَقْريرًا لَهُ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ عَصًا، حَتَّى لا يَخَافَ عِنْدَمَا يراها تْسْعَى أَمَامَهُ ثُعْبانًا، وَإِنَّمَا سَأَلَهُ رَبُّهُ عَنْهَا؛ لِيُرِيَهُ عَظِيمَ مَا يَفْعَلُهُ بِهَا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "مَا" اسْمُ اسْتِفْهَامٍ تَقْريرِيٍّ، مبنيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، و "تِلْكَ" تِي: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ على السُكونِ الظاهِرِ على الياءِ المحذوفةِ لالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، واللامُ: للبُعدِ، والكافُ للخِطابِ، وهَذِهِ الجُملةُ الاسميَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ "تِلْكَ" مَوْصُولَةً بِمَعْنَى "التي"، وَ "بِيَمِينِكَ" صِلَتُها. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ، وَهَذَا لَيْسَ مَذْهَبَ البَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مِنْ أَسْمَاءِ الإِشارَةِ مَوْصُولًا إِلَّا "ذَا" بِشُروطٍ. وَأَمَّا الكُوفِيُّونَ فيُجِيزونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِها، وَمِنْهُ عندَهم هَذِهِ الآيَةُ، أَيْ: "وَمَا الَّتي بِيَمِينِكَ"، وَأَنْشَدُوا عليْهِ بيتًا ليَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُفَرِّغٍ الحِمْيَرِيِّ يَزْجُرُ بَغَلَةً لَهُ كانَ يَرْكَبُها لِتُسْرِعَ في سَيْرِها:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادِ عَليْكِ إِمَارَةٌ ............... نَجَوْتِ، وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أَيْ: وَهَذَا الذي تَحْمِلينَ هُوَ طَلِيقٌ. وَقولُهُ (عَدَسْ): كَلِمةُ زَجْرٍ لِلدَّبَةِ لِتُسْرِعَ في سَيْرِها. وَ "بِيَمِينِكَ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنِ اسْمِ الإِشارَةِ، وَالعامِلُ فِي الحَالِ المُقَدَّرَةِ مَا فِي الإِشارَةِ مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ، و "يَمِينِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "يَا مُوسَى" الياءُ: أَداةٌ لِنِداءِ البَعِيدِ، وَ "مُوسَى" مُنَادَى مُفْرَدٌ علمٌ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ المقدَّرِ على آخرِهِ لِتَعَذُرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى النِّداءِ. وُجْمَلَةُ النِّداءِ: "يا مُوسَى" اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَوْ اسْتِئْنافِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ النَّداءِ، وَعَلى كِلَا الوَجْهَيْنِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.