وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} أَيْ: وأَنَا اصْطَفَيْتُكَ مِنْ بَيْنِ خلقي مِنْ قومِكَ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِكَ، وَجَرَّدْتُكَ، وَنَقَّيْتُكَ عَنْ دَنَسِ الأَوْهامِ والشِّرْكِ، وَكُلِّ مَا يُكَدِّرُ صَفْوَكَ، لِتَكونَ رَسُولِي إِلَى قومِكَ، فَتَهْديهم سَبِيلِي وتُخلِّصَهِم منَ اسْتِعْبادِ فِرْعونَ وقومِهِ وإِذْلالِهمْ، وَتَسخيرِهِم لِخِدْمَتِهم، ورَسُولًا إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِيُؤْمِنُوا بِي. فَأَنْتَ لِي وَبِي، وَأَنْتَ مَحْبوبي في فَنَائِكَ عَنْكَ. وَقَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مرْيَمَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} الآيَةَ: 51، فَقَدْ أَخْلَصَهُ اللهُ ـ تَبَاركَتْ أَسْماؤُهُ، لِنَفْسِهِ المُقدَّسةِ بصِفاتٍ هُوَ خَلَقَهَا فِيهِ، وميَّزَهُ بِهَا.
وَقَدْ كَرَّرَ ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى، عَلَى سَمْعِ عَبْدِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، ضَميرَ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ "أَنَا" تَأْكيدًا للخِطابِ، لِإيناسِ رَسُولِهِ بِهِ، وَإِزالَةِ الاسْتِغْرَابِ.
قولُهُ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}ِ فَاسْتَمِعْ لِمَا أُوحِيهِ إِلَيْكَ لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَتي إليهِمْ، وتَدُلَّهم عَليَّ، وتُعَرِّفَهُمْ بِنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ، لِيَعْرِفوني ويَعْبُدوني وَحْدِي لا يُشركونَ مَعِي أَحدًا غَيْرِي في عبادتي، ولِيَعْمَلوا بِشَريعَتِي. وفاءُ العَطْفِ هُنَا تُفِيدُ التَعْقِيبَ والتَرْتِيبَ، لأَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِمَا يُوحِى إليْهِ بِهِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى اصْطِفَائِهِ وَاخْتِيارِهِ لَهُ، أَوْ هُوَ مَوْضُوعُ الاخْتِيارِ ذَاتهُ، ومَا سَيُوحَى إِلَيْهِ بِهِ هوَ التَّوْراةُ وَمَا فِيهِ مِنْ أَحكامٍ وَشَرَائِعَ. وَهَذَا كَمَا قَالَ لَهُ أَيْضًا في الآيَةِ: 144، مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: {قالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "أَنَا" ضميرُ المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ. و "اخْتَرْتُكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٌ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهِيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ عَلَى الفاعِلِيِّةِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ، والثاني مَحْذوفٌ أَيْ: اخْتَرْتُكَ مِنْ قَوْمِكَ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في محلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ".
قوْلُهُ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْريعٍ، و "اسْتَمِعْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) والجُمْلةُ في مَحلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ "اخْتَرْتُكَ" عَلَى كونِها خبرَ المُبْتَدَأِ. و "لِمَا" اللَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَمِعْ"، وهُوَ الظاهِرُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ اللامُ مَزيدَةً في المَفْعُولِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ النَّمْل: {رَدِفَ لَكُم} الآيةَ: 72. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكونَ المَسْأَلَةُ مِنْ بابِ التَنَازُعِ بَيْنَ "اخْتَرْتُك" وَبَيْنَ "اسْتَمِعْ" فكَأَنَّهُ قِيلَ: اخْتَرْتُكَ لِمَا يُوحَى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعُلِّقَ اللَّامُ بِـ "اسْتَمِعْ" أَوْ بـ "اخترتُك". وَرَدَّ الشَّيْخُ أَبُو حيَّانُ هَذَا بِأَنْ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيقُ بِـ "اخْتَرْتُكَ" لِأَنَّه مِنْ بابِ الإِعْمَالِ، يَجِبُ أَوْ يُخْتَارُ إِعادَةُ الضَّميرِ مَعَ الثاني فَكانَ يَكونُ: فَاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بابِ إِعْمَالِ الثاني. قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ: الزَّمَخْشَرِيُّ عَنَى التَّعْليقَ المَعْنَوِيَّ مِنْ حَيْثُ الصَّلاحِيَّةُ، وَأَمَا تَقْديرُ الصِّناعَةِ فَلَمْ يَعْنِهِ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، أوْ نَكِرةٌ مَوْصوفةٌ. وَ "يُوحَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمجهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الألِفِ. ونائبُ فاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الموصولِ "ما"، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا"، أَوْ صِفَةٌ لَهَا إنْ أُعْرِبَتْ مَوْصوفةً. ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ "ما" مَصْدَرِيَّةً، فيكونُ التَّقديرُ: فَاسْتَمِعْ للوَحْيِ.
قرأَ الجُمْهُورُ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} بِضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وحْدَهُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ فِي آخَرينَ: "وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ بِضَميرِ المُتَكَلِّمِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ. فَعَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، وَذَلِكَ أَنَّهُ قرَأَ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ هُنَاكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمَّا عَطَفَ غَيْرَهَا عَلَيْهَا. وَقَرَأَ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ، والأَعْمَشُ، وابْنُ هِرمِزْ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الهَمْزَةَ، لِأَنَّهُم قَرَؤوا التي قبلَها: "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ" بِالكَسْرِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَأَنِّي اخْتَرْتُكَ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، فَقِراءَتُهُ كَقِراءَةِ حَمْزَةَ بالنِّسْبَةِ للعَطْفِ. وَجَوَّزَ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ أَنْ يَكونَ الفَتْحُ عَلَى تَقْديرِ: وَلِأَنَّا اخْتَرْنَاكَ فَاسْتَمِعْ، فَعَلَّقَهُ بِـ "اسْتَمِعْ". وَالأَوَّلُ أَوْلَى.