لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} عَطْفٌ عَلَى الآيَةِ التي قَبْلَها: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}. وَهوَ رَدٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ لِآلِهَتِهِمْ تَصَرُّفَاتٍ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْجِنِّ تَتطَّلعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَلِتَقْرِيرِ هَذا الرَّدِّ ذُكِرَتْ أَنْحَاءُ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. وَتَقْدِيمُ الجَارِّ وَالْمَجْرُورِ "لَهُ" لِإفادةِ الْقَصْرِ، أَيْ: أَنَّ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، وما فيهِما مِنْ مخلوقاتٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، كلَّ ذِلِكَ هوَ مُلْكٌ للهِ تَعَالَى الذي خَلَقَ وأَمَدَّ، وهوَ وحدَهُ المُهَيْمِنُ عَلَيْهِ والمُتَصَرِّفُ فيهِ، إِحْيَاءً وَإِمَاتَةً، وَإيجادًا وَإمْدادًا وَإعدامًا، لَا شَراكَةَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، وَلَا اسْتِقْلَالًا عَنْهُ.
قولُهُ: {وَمَا بَيْنَهُمَا} مِنَ المَوْجُودَاتِ الكَائِنَةِ فِي الجَوِّ بِصُورَةٍ دائمَةٍ، كالهَوَاءِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرضِ، وَالطَّيرُ أَيْضًا مَشْمُولٌ بها لأَنَّ أَكْثَرَ تَوَاجُدِهِ في الفَضَاءِ، وما أَشْبَهَهُ مِنْ حَشَرَاتٍ طائرةٍ وَفَرَاشٍ وَغيرِهِ مِنْ هَوَامٍ. وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ: (يَعْني الهَوَاءَ).
قوْلُهُ: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} الثَّرَى: في العَرَبِيَّةِ هُوَ التُّرَابُ النَّديُّ. وَمَا تَحْتَ الثَّرى هُوَ بَاطِنُ الْأَرْضِ كُلُّهُ.
وَلامُهُ ياءٌ بِدَلِيلِ تَثْنِيَةِ عَلى ثَرَيَيْنِ، وقولهم ثَرِيَتْ الأرَضُ تَثْرَى ثَرَىً. والثَّرَى يُسْتَعْمَلُ في انقطاعِ المودة. قال جرير بْنُ عطيَّةَ:
فلا تَنْبُشُوا بيني وبينَكُمُ الثرى ............ فإنَّ الذي بيني وبينَكُمُ مُثْرِي
والثَّراءُ بالمَدِّ: كَثْرَةُ المَالِ، قَالَ الشَّاعِرُ حاتمٌ الطائيُّ:
أَماوِيَّ ما يُغْني الثَّرَاءُ عَنِ الفَتَى ... إِذَا حَشَرَجَتْ يومًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
وَقالَ ابْنُ دُرَيْدٍ:
يَوْمًا تَصِيرُ إِلَى الثَّرَى ............................. وَيَفُوزُ غَيْرُكَ بِالثَّرَاءِ
فَقد جَمَعَ الشَّاعِرُ في هَذِهِ القَصِيدَةِ بَيْنَ الاسْمِ المَمْدودِ والاسْمِ المَقُصورِ باخْتِلافِ مَعْنًى. وثَرَّى التُّرْبَةِ بَلَّلَها، وثَرِيَتِ الأَرْضُ فَهِيَ ثَرِيَّةٌ إِذَا ابْتَلَّ تُرَابُها بَعْدَ جَدْبٍ، وأَثْرَتْ فَهيَ ثَرِيَّةٌ إِذَا كَثُرَ ثَرَاها، وأَرْضٌ ثَرِيَّةٌ ذَاتُ ثَرَى، وَبَدا ثَرَى المَاءِ مِنَ الفَرَسِ، إِذا نَدِيَ بِعَرَقِهِ. وفُلانٌ قَريبُ الثَّرَى بَعِيدُ النَّبَطِ، أَيْ: يَعِدُ دونَ أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ. وَرَأَيْتُ ثَرَى الغَضَبِ فِي وَجْهِهِ أَيْ: رَأَيْتُ أَثَرَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ شَبيبِ بْنِ البَرْصَاءِ:
وإِنَّي لَتَرَّاكُ الضَّغَّينَةِ قَدْ أَرَى .............. ثَرَاهَا من المَوْلَى فَمَ أَسْتَثْيِرُهَا
وتَقولُ: الثَرَى بَيْنِي وَبَيْنَكَ نَديٌ، إِذا لَمْ يَنْقَطِعْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَريرِ بْنِ عَطِيَّةَ:
فَلاَ تُوبِسُوا بَيْنِي وبَيْنَكُمُ الثَّرَى .......... فإِنَّ الذِي بَيْنِي وبَيْنَكمُ مُثْرَى
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: "الثَّرَى" كُلُّ شَيْءٍ مُبْتَلٌّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: الثَّرَى مَا حَفَرَ مِنَ التُّرَابِ مُبْتَلًّا.
وَأخرج الحافظُ أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَأَقْبَلْنَا رَاجِعِينَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، فَنَحْنُ مُتَفَرِّقُونَ بَيْنَ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ، مُنْتَشِرِينَ، قَالَ: وَكُنْتُ فِي أَوَّلِ الْعَسْكَرِ: إِذْ عَارَضَنَا رَجُلٌ فَسَلّم ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَمَضَى أَصْحَابِي وَوَقَفْتُ مَعَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد أَقْبَلَ فِي وَسَطِ العَسْكَر عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، مُقَنَّع بِثَوْبِهِ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا السَّائِلُ، هَذَا رَسُولُ اللهِ قَدْ أَتَاكَ. فَقَالَ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقُلْتُ: صَاحِبُ البَكْر الْأَحْمَرِ. فَدَنَا مِنْهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ رَاحِلَتِهُ، فَكَفَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ خِصَالٍ، لَا يَعْلَمُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَلْ عَمَّا شِئْتَ)). فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَيَنَامُ النَّبِيُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ)). قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مِنْ أَيْنَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ؟ قَالَ: ((مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّ الْمَاءَيْنِ غَلَبَ عَلَى الْآخَرِ نَزَعَ الْوَلَدُ)). فَقَالَ صَدَقْتَ. فَقَالَ: مَا لِلرَّجُلِ مِنَ الْوَلَدِ وَمَا لِلْمَرْأَةِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ((لِلرَّجُلِ الْعِظَامُ وَالْعُرُوقُ وَالْعَصَبُ، وَلِلْمَرْأَةِ اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالشَّعْرُ)) قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا تَحْتَ هَذِهِ، يَعْنِي الْأَرْضَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَلْقٌ)). فَقَالَ: فَمَا تَحْتَهُمْ؟ قَالَ: ((أَرْضٌ)). قَالَ: فَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ؟ قَالَ ((الْمَاءُ)). قَالَ: فَمَا تَحْتَ الْمَاءِ؟ قَالَ: ((ظُلْمَةٌ)). قَالَ: فَمَا تَحْتَ الظُّلْمَةِ؟ قَالَ: ((الْهَوَاءُ)). قَالَ: فَمَا تَحْتَ الْهَوَاءِ؟ قَالَ: ((الثَّرَى)). قَالَ: فَمَا تَحْتَ الثَّرَى؟ فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْبُكَاءِ، وَقَالَ: ((انْقَطَعَ عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ عِنْدَ عِلْمِ الْخَالِقِ، أَيُّهَا السَّائِلُ، مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)). قَالَ: فَقَالَ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟)). قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)). قالَ بْنُ كثيرٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، تَفَرَّدَ بِهِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: "لَيْسَ يُسَاوِي شَيْئًا" وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لا يُعْرَفُ، واللهُ أَعلمُ.
قوُلُهُ تَعَالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لَهُ: اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مَا" اسمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ: مِسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بصِلةٍ للاسْمِ الموصولِ، و "السَّمَاوَاتِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "ما في الأرضِ" مِثْلُ "مَا فِي السَّمَاواتِ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. و "وَمَا بَيْنَهُما" وَ "مَا تَحْتَ الثَّرَى" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ أَيْضًا.