مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} المخاطَبُ سيِّدُنا رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَنْفي اللهُ تَعَالَى أَنْ يكونَ قدْ أَنزلَ عليهِ القُرْآنَ لِيَتَعَبَ ويَبْلُغَ مِنَ الجُهْدِ في العبادةِ مَا بَلَغَ. فَقَدْ كانَ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ ـ كَمَا تَقَدَّمَ، حتى أَنَّهُ كانَ يُرَاوِحُ فَيَقِفُ عَلَى رِجْلِهِ اليُمْنَى تارةً، وتارةً على اليُسْرَى مِن طولِ القيامِ وشِدَّةِ التَّعَبِ والإِعْيَاءِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ هذِهِ الآيَةَ الكَريمَةَ: "مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى" أَيْ: لِتُنْهِكَ نَفْسَكَ بِالْعِبَادَةِ، وَتُذِيقَهَا الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ. وَمَا بَعَثْنَاكَ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. تَدُلُّ عَلَى هذا ظَوَاهِرُ آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللهِ الكَريمِ، كَقَوْلِهِ في الآيةِ: 185، مِنْ سُورةِ البَقَرَة: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الحَجِّ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية: 78. وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى" يَقُولُ: فِي الصَّلَاةِ، هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ المُزَّمِّلِ: {فَاقْرَؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} الآيَةَ: 20، قَالَ: وَكَانُوا يُعَلِّقونَ الحِبَالَ بِصُدورِهِمْ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: (أَيْ: لِتَصَلِّي عَلَى إِحْدَى رَجْلِيْكَ فَيَشْتَدُّ عَلَيْكَ)، "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" لهُ: (3/349).
وَقَالَ الكَلْبِيُّ: (لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الوَحْيُ بِمَكَّةَ اجْتَهَدَ فِي العِبَادَةِ، وَاشْتَدَّتْ عِبَادَتُهُ، فَأَمَرَهُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيَ لِيَتْعَبَ كُلَّ ذَلِكَ التَّعَبِ، وَكانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ يَنَامُ بَعْضَ اللَّيْلِ وَيُصَلِّي بَعْضَهُ).
وَيَجوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَذِهِ الآيةِ: أَسَفُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ. لِأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، شَديدَ الحِرصِ عَلى إِيمانِ قومِهِ، عَظِيمَ الحُزْنِ عَلَيهم لِمَا يَرَى مِنْ إِعْراضِهم، حتى قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الآيةَ: 6. فَيَكونُ المُرَادُ بالآيَةِ: "ما أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى" لِتَتْعَبَ التَّعَبَ الشَّدِيدَ بِفَرْطِ تَأَسُّفِكِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَحَسُّرِكَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الشُّعراءِ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} الآيةَ: 6. وقولِهِ مِنْ سورةِ فاطر: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} الْآيَةَ: 8، وَغيرِها مِنَ الْآيَاتُ المُبَارَكاتِ. وَقالَ ابْنُ بَحْرٍ: مَعْنَاهُ: لَا تَشْقَ بالحُزْنِ وَالأَسَفِ عَلَى كُفْرِ قَوْمِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا لِنُؤَيِّدَكَ وَنَنْصُرَكَ عَلى مُخالِفِي شَريعتِكَ، ومُناوئي دَعْوَتِكَ، وَلِتَكُونَ الْعَاقِبَةُ لَكَ وللمُؤْمِنِينَ بِكَ ومُناصِري رِسَالَتِكَ. قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: الآيةُ جَوَابٌ للمُشْرِكِينَ لمَّا قالواْ: إِنَّهُ بالقُرْآنِ شَقِيٌّ. فقد نَفى اللهُ تَعَالى كُلِّ شَقَاءٍ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيْ: جَمِيع أَنْوَاعِ الشَّقَاءِ فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ سَبَبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّقَاءِ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بَلْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لِيَسْعَدَ. كَمَا يَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الشَّريفُ الصَّحِيحُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)). أَخرجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهَ: (1/306(2791)، والدارِمِيُّ: (225 و 2706)، والتِّرْمِذِيُّ: (2645)، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وأَخْرَجَهُ الشَّيْخانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَديثِ مُعاوَيَةَ ابْنِ أَبي سُفْيَان ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: صَحيحُ البُخَاريِّ بِرَقَم: (71)، وَصَحيحُ مُسْلِمٍ بِرَقَم: (1037). وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ اللَّيْثِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي).
وَالشَّقَاءُ: هو فَرْطُ التَّعَبِ بِعَمَلٍ أَوْ غَمٍّ فِي النَّفْسِ، قالَ تَعَالى في الآيةِ: 117، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}. وَفي ذَلِكَ قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبيانيُّ:
إِلَّا مَقَالَةَ أَقْوَامٍ شَقِيتُ بِهِمْ ............ كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ قَرْعًا عَلَى كَبِدِي
وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: الْعَنَاءُ، وَالتَّعَبُ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي:
ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ ...... وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ
وَالهَمْزَةُ في هَذِهِ المُفردَةِ "الشَّقَاءِ" مُنْقَلِبَةٌ عَنِ وَاوٍ. فَيُقَالُ: شَقِيَ فُلانٌ "شَقَاءً" وَ "شَقَاوَةٌ ـ بِفَتْحِ الشِّينِ، إِذا تَعِبَ جسدُهُ أَوْ تَعْبَتْ نفسُهُ، وَيُقالُ أَيْضًا: "شَقِيَ" شِقْوَةً ـ بِكَسْرِ الشِّينِ.
قولُهُ تَعَالَى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} مَا: نافِيَةٌ، و "أَنْزَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، و "نَا" التَّعْظِمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالفَاعِلِيَّةِ. و "عَلَيْكَ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلْنَا"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الْقُرْآنَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "لِتَشْقَى" اللَّامُ: هي لامُ "كَيْ" حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْليلٍ، وَ "تَشْقَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَة بَعْدَ لَامٍ "كَيْ"، وعلامةُ نَصْبِهِ فتْحَةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِالَّلامِ، والتقديرُ: لِشَقائِكَ، والجارُّ وَالمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلْنَا".
قَرَأَ العامَّةُ: {أَنَزَلْنَا} وَقَرَأَ طَلْحَةُ "مَا نُزِّلَ عليكَ القُرآنَ" مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، "القُرْآنُ" رُفِعَ لأنَّهُ نابَ عنْ فاعِلِهِ.