فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أَيْ: سهَّلْنا الْقُرْآن عَلَى لِسَانِكَ وَطَوَّعْنَاهُ لَكَ حِفْظًا وَأَدَاءً وَإِلْقَاءَ مَعَانٍ، لتَبْليغِ الرِّسَالَةِ فَأَنْتَ تُوَظِّفُهُ فِي المُهِمَّةِ التي مِنْ أَجْلِهَا أَنْزَلْناهُ عَلَيكَ. وَقالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ القَمَر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} الآيةَ: 17.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسَرَهُ عَلى لِسَانِهِ حَتَّى اسْتَطَاعَ التَّكَلُّمَ وَالنُّطْقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ العَالَمِينَ. قالَ أَبُو بَكْرٍ الأَصَمّ: هَذَا لَا يُحْتَمَلُ؛ لِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِلِسَانِهِ وِلِسانِ العَرَبِ، فَلَا يُحْتَمَلُ أَلَّا يَقْدِرُوا عَلَى التَكَلُّمِ بِلِسانِهِمْ. وقالَ آخَرونَ: يَسَّرَهُ عَلَى لِسَانِهِ حَيْثُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ يَقْرَؤونَهُ وَيَحْفَظُونَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الكُتُب المُتَقَدِّمَةِ: فَكانُوا لَا يَقْدِرونَ عَلَى حِفْظِهَا وقِرَاءَتِها عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.
وَتِلْكَ إِحْدَى مَزَايَا هَذَا القُرَآنِ الكريمِ لِمَا في تراكيبِ آياتِهِ مِنْ إيقاعٍ في ألفاظِهِ، وَجَرْسٍ في حروفِهِ وتَجَانُسٍ بَيْنَ نِهاياتِ آياتِهِ، وَتَرَابُطٍ مَنْطِقِيٍّ بَيْنَ مَعَانِيهِ وَتَرَاكِيبِهِ، وَلِتَنَوُعِ أَسَالِيبِ تَعْبِيرِهِ بَيْنَ السَّرْدِ وَالقَصِّ وَالوَعْظِ، وَالتَقْريرِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
إِذًا فالضَّميرُ فِي "يَسَّرْنَاهُ" عائدٌ إلَى القُرْآنِ الكريمِ؛ لَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي قُلوبِ المُؤْمِنِينَ، يُنِيرُهَا بِنُورِهِ، وَيُبْهِجُهَا بِفَوْحِ عَبِيرِ عِطْرِه فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرٍ مُعَيِّنٍ سَابِقًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ جارٍ دائمًا عَلَى أَلْسِنَتِهِم، حاضِرٌ فِي قُلُوبِهم لَا تَغِيبُ عَنْها شَمْسُهُ، ولا يفارقُها أُنْسُهُ.
وبالتالي فالضَميرُ في "بِلِسَانِكَ" إِلى سَيِّدِنا محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، فهو المُخاطَبُ بالآيةِ: وَإِنَّما يَسَّرَ اللهُ القُرْآنَ الكَريمَ عَلَى لِسَانِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، لِيُبَشِّرَ بِهِ المُؤْمِنِينَ كَأَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ، وَعَليٍّ، وأَبي عُبَيْدَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَمُصْعَبِ بْنِ عمَّار، وَعَمَّار بْنِ ياسِرٍ، وَبِلالٍ، وَصُهَيْبٍ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَغَيْرِهِمْ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جميعًا، الذينَ يُضِيءُ الإِيمانُ طَرِيقَهم، ويُنِيرُ التوحدُ قُلوبَهم؛ لِأَنَّهُمْ للحَقِّ مُذْعِنونَ، وَبِهِ مُتَمَسِّكونَ، وبهدْيِ ربِّهم مُسْتَنيرونَ ولرضاهُ مُتَطَلِّعونَ، ولِرَسولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، متَّبعونَ، وبِهُ مقتدونَ، ولهُ محبُّونَ، فبشِّرِهِمْ برضاهُ عنهم، وما أَعَدَّ لهم مِنَ النَّصْرِ والعيشِ الكريمِ في الدنيا، وبِحْسْنِ المَآلِ والثوابُ وَالأَجْرِ العَظيمِ فِي الآخِرَةِ.
قَوْلُهُ: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} لُدًّا: بِوَزْنِ "فُعْل" بِضَمٍّ فَسُكون، جَمْعُ أَلَدٍّ، بِزِنَةِ "أَفْعَلَ"، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ "لَدَّ، يَلُدُّ" أَيْ خَاصَمَ خُصُومَةً شَديدَةً، بَابُها "نَصَرَ"، ومِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالى في الآية: 204، مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. ومِنْهُ قوْلُ الشاعرِ:
أَبيتُ نَجِيًّا للهُمومِ كأنَّني .............. أُخَاصمُ أَقوامًا ـ ذَوِى جَدَلٍ، لُدًّا
وَالأَلَدُّ: المُخَاصِمُ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَادُ للحَقِّ وَلَا يَقْبَلُهُ. وَأَخْرَجَ الطَبَرِيُّ عنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: صُمًّا عَنِ الْحَقِّ، جامعُ البَيَانِ في تَأْويلِ القُرْآنِ: (16/134). وأَخْرَجَ أَيْضًا عنْ مُجَاهدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "الْأَلَدُّ": الظَّالِمُ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ. جامعُ البَيَانِ في تَأْويلِ القُرْآنِ: (16/134). وَقِيلَ: "الأَلَدُّ" هَهُنَا هُوَ الظَّالِم، وَ "اللُّدُّ" هُمُ الذينَ يُجادِلُونَ بِغَيْرِ الحَقِّ، وَهَؤُلاءِ يُنْذِرُهُمُ القُرْآنُ الكريمُ الإنذارَ الشَّديدَ كَيْلا يَكونَ لَهُمْ عُذْرٌ فِي كُفْرِهِمْ، لتَقومَ الحجَّةُ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالى مِنْ سُورةٍ الإسْراءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآيةَ: 15، وَقالَ مِنْ سُورَةِ فاطر: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} الآية: 24، واللِّسَانُ هُوَ اللُّغَةُ، وَهِيَ هُنَا اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ.
وَمِنْ شَأْنِ أَهْلِ الخُصُومَةِ الجِدالِ أَنْ يَكونَ تَفْكيرُهم مُنْحازًا إلى جانِبٍ، وعَقْلُهُمْ مُغْلقٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْفْتِحُ عَلَى غَيْرِه مِمَّا يُعْرَضُ عَلَيْهم، فَهم لَا يَسْتَمِعُون إِلَى مَا يَعْرِضُ لَهم وَلَوْ كانَ هوَ الحَقَّ، وَيَنزْعَجونَ إِذا مَا حُذِّروا وَأُنْذِرُوا بِمَا يَنْتَظِرُهم مِنْ سوءِ العاقِبَةٍ، ويَسْتَمِرونَ في السَّيْرِ عَلَى طَريقِ الضلالِ والغِوَايَةِ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُم أَنَّ الضَّميرِ في "لسانِكَ" يَعُودُ إِلَى سَيِّدِنَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَدْ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ الإنذارَ والمَوْعِظَةَ الَّتي بَلَّغَهَا إِلَى فِرْعَوْنَ، وَأَكابِرِ حاشيَتِهِ الذينَ كَانُوا يَقْتُلونَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، فَيَسَّرَ ذَلِكَ وأَقْدَرَهُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَّغَ هَؤُلَاءِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدِرُوا همْ عَلَى إِهْلَاكِهِ. واللهُ أَعلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} الفاءُ: تَعْلِيلِيَّةٌ لِمَعْلُولٍ مَحْذوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، والتَّقْديرُ: بَلِّغْ هَذَا المُنَزَّلَ عَلَيْكَ وَبَشِّرْ بِهِ، وأَنْذِرْ لِأَنَّا يَسَّرْناهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ، و "إِنَّمَا" كافَّةٌ ومكْفوفةٌ، أَدَاةُ حَصْرٍ. و "يَسَّرْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٌ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ. و "بِلِسَانِكَ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ في "يَسَّرْنَاهُ"، أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِ جَاريًا عَلَى لِسَانِكَ، و "لسانِكَ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِلَامِ التَّعْلِيلِ المُقَدَّرَةِ المَدْلُولِ عَلَيْهَا بِـ "الفاءِ" التَعْلِيلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ المُعَلَّلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} اللامُ: هي لامُ "كَيْ" حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ، و "تُبَشِّرَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَة بَعْدَ لامِ "كي" وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِ الوُجودِ مُحَمَّدٍ ـ عَليِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وَ "بِهِ" الباءُ: حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُبَشِّرَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الْمُتَّقِينَ" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَةُ هذِهِ جُمْلَةٌ تَعْلِيلِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ معَ ما بعدَها فِي تَأْويلِ مَصَدَرٍ مَجرورٍ بِاللامِ والتقديرُ: لِتَبْشيرِكَ بِهِ المُتَّقِينَ، والجَارُّ والمَجْرُورُ هذا مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسَّرْنَاهُ".
قوْلُهُ: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} الواوُ: للعطفِ، و "تُنْذِرَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى "تُبَشَّرَ"، ولُهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُبَشَّرَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "قَوْمًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "لُدًّا" صِفَةٌ لِـ "قَوْمًا" منصوبٌ مثلُهُ.