ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، مِنْ خَبَرِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ. أَوْ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَلَيْسَ كَما قَالَتْ فيهِ النَّصَارَى وغَيْرُهم مِنْ أَنَهُ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّهُ ثالثُ ثَلاثَةٍ، وغيرِ ذَلِكَ ممّا قالوه فيهِ، ولكِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عبْدُ اللهِ، كَمَا أَقَرَّ هوَ بِعُبوديَّتِهِ للهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ}.
وَالْإِشَارَةُ لِتَمْيِيزِ الْمَذْكُورِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وذلكَ للرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا، وما ألصقوهُ بِهِ أَوِ ادَّعوهُ فيه، فقدْ أَنْزَلَهُ الْيَهُودُ إِلَى حَضِيضِ الْجُنَاةِ، وَرَفَعَهُ النَّصَارَى إِلَى مَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُخْطِئٌ مُبْطِلٌ.
وقالَ أَبو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: (أَيْ ذَلِكَ الذي قَالَ {إِنِّي عَبْدُ اللهِ} وما بعدها مِنَ الآياتِ، هوَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، لَا مَا قالَهُ النَّصَارَى مِنْ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ وَأَنَّهُ إِلَهٌ)، مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ للزَّجَّاجِ: (3/329).
قوْلُهُ: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} هُوَ القَوْلُ الحَقُّ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ المُبْطِلُونَ، الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى، وَتَقَوَّلُوا عَلَى أُمِّهِ، وَشَكُّوا فِي وِلاَدَتِهِ، وَالَّذِينَ غَالُوا فِيهِ فَادَّعُوا أَنَّهُ اللهُ، أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ. ويَجُوزُ أَنْ يُرادَ بالْحَقِّ هَهُنا اللهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، وهُوَ قَوْلُ مُجاهِدٍ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {ذَلِك عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} قَالَ: اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، الْحَقُّ، ويَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُضافَ "الحَقُّ" إِلى "القَوْلِ": "جامِعُ البَيَانِ" للطبريِّ: (16/83)، "مَعَاني القُرْآنِ وإِعرابُهُ" للفَرَّاءِ: (2/168). أيْ: ذَلِكَ عيسَى بْنُ مَرْيَمَ حَقُّ القَوْلُ، كَمَا قِيلَ في سُورةِ الواقعةِ: {حَقُّ الْيَقِينِ} الآية: 95، وفي الآية: 51، مِنْ سُورَةِ الحاقَّةِ، وكما قال في سورةِ الأحقافِ: {وَعْدَ الصِّدْقِ} الآية: 16، وكما قالَ تَعَالى: {الدَّار الآخرة} الآيَةَ: 94، مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ، وفي غَيْرِها منَ كتابِهِ الكريمِ. و "يَمترونَ" يَرْتابونَ، ويَشُكُّونَ، ويختلفونَ، أَيْ: هذا الذي ذكرناهُ لَكَ هوَ القولُ الحقُّ في عيسَى بْنِ مريمَ الذي يَخْتَلِفُ فيهِ المُحِقُّونَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، والمُبْطِلونَ ممَّنْ كَفَرَ بِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ذَلِكَ: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداء، واللامُ للبُعدِ، والكافُ للخطابِ. و "عِيسَى" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ، لِتَعَذُّرِ ظهورِها على آخِرِهِ. والجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب. و "ابْنُ" صِفَةٌ أُولَى لِـ "عِيسَى" مرفوعةٌ مثلُهُ، وهوَ مُضافٌ. و "مَرْيَمَ" مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "عيسى" بَدَلًا مِنَ المبتدَأِ أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ عَنْهُ. وَ "قوْلُ" خَبَرَهُ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "قَولُ الحَقِّ" خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: هوَ قَوْلُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "ابْنُ مَرْيَمَ" نَعْتًا أَوْ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ أَوْ خَبَرًا ثانِيًا لهُ.
قوْلُهُ: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} قَوْلَ: صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِـ "عيسى" عليْهِ السَّلامُ، وهوَ مُضافٌ. وَ "الْحَقِّ" مَجْرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ؛ أَيْ: كَلِمَةَ اللهِ. و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ صِفَةً ثالثَةً لِـ "عِيسَى" عليْهِ السَّلامُ. و "فِيهِ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ "يَمْتَرُونَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "يَمْتَرُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ بحسَبِ قراءَةِ الرَّفعِ، وَأَمَّا عَلَى قِراءَةِ النَّصْبِ فَـ "قَوْلَ الْحَقِّ" مَنْصوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ. قَالَ: "قَوْلَ الْحَقِّ"، و "الْحَقِّ" بِمَعْنَى الصِّدْقِ و "الَّذِي" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "قَوْلَ الْحَقِّ" وُجُمْلَةُ "يَمْتَرُونَ" صِفَةٌ لَهُ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {قَوْلُ الْحَقِّ} بِالرَّفْعِ، خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ وَصْفٌ لِعِيسَى أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ، أو بَدَلٌ). قالَ الشَّيْخُ أبو حيَّان: (وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ: وهو أَنْ يُرادَ بِهِ كَلِمَةُ اللهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَكونُ الذاتَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وحَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ "قولَ" بِالنَّصْبِ على أَنَّهُ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ مِنْ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَيَجوزُ فِيهِ أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِمَضْمونِ الجُمْلَةِ، كَقَوْلِكَ: هوَ عبْدُ اللهِ الحَقَّ لَا الباطِلَ، أَيْ: أَقُولُ قَوْلَ الحَقِّ، فالحَقُّ: الصدقُ، وهو مِنْ إِضافةِ المَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، أَيْ: القَوْلُ الحَقُّ، كَقَوِلِهِ منْ سُورةِ الأحقاف: {وَعْدَ الصِّدْقَ} الآيةَ: 16، أَيْ: الوَعْدَ الصِّدْقَ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصوبًا عَلَى المَدْحِ، أَيْ: أُريدَ بـ "الحَقِّ" البارِيْ تَعَالَى، و "الذي" نَعْتٌ للقَوْلِ إِنْ أُرِيْدَ بِهِ "عِيسَى" عليْهِ السلامُ، وسُمِّي قوْلًا كَمَا سُمِّي كَلِمَةً لِأَنَّهُ عَنْها نَشَأَ. وقِيلَ: هوَ مَنْصوبٌ بإِضْمارِ "أَعْنِي". وَقيلَ: هوَ مَنْصوبٌ عَلى الحالِ مِنْ "عيسى". ويُؤيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنِ الكِسائيِّ في تَوْجيهِ الرَّفْعِ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِعِيسَى. وقَرَأَ الأَعْمَشُ "قالُ" بِرَفْعِ اللَّامِ، وَهيَ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعودٍ أَيْضًا. وَقَرَأَ الحَسَنُ "قُوْلُ" بِضَمِّ القافِ وَرَفْعِ اللَّامِ، وَهِيَ مَصَادِرُ لِـ "قال"، "يُقالُ": قالَ يَقُولُ قَوْلًا وَقالاً وقُوْلًا، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب. وقال العُكْبُريُّ أَبو البَقاءِ: والقالُ: اسْمٌ للمَصْدرِ، مِثْل: "القِيلِ"، وِحُكِي "قُولُ الحَّق" بِضَمِّ القافِ مِثْل "الرُّوْح" وهِيَ لُغَةٌ فِيهِ. والظاهرُ أَنَّ هَذِهِ مَصَادِرُ كُلُّها، ليْسَ بَعْضُها اسْمًا للمَصْدَرِ، كَمَا تَقَدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب. وقَرَأَ طَلْحَةُ والأَعْمَشُ "قالَ الحقُّ" فجعلَ "قالَ" فعْلًا ماضِيًا، و "الحقُّ" فاعِلٌ بِهِ، والمُرادُ بِهِ الباري تَعَالَى. أَيْ: قالَ اللهُ الحَقُّ: إِنَّ عِيسَى هوَ كَلِمَةُ اللهِ، وَيَكونُ قوْلُهُ: "الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ" خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ.
قرأَ الجمهورُ: {يَمْتَرونَ} بِيَاءِ الغَيْبة، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالبٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، والسُّلَمِيُّ وداودُ بْنُ أَبي هِنْدٍ وَنافعٌ والكِسائيُّ ـ في رِوايةٍ عَنْهُما، "تَمْتَرونَ" بِتَاءِ الخِطابِ. وتَمْتَرُونَ بوزْنِ "تَفْتَعِلُون": إِمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ، وإمَّا مِنَ المِراءِ وهو الجِدالُ.