قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ} رُوِيَ أَنَّ سيِّدَنا عيسى ـ عَليْهِ السلامُ، قَامَ مُتَّكِئًا عَلَى يَسَارِهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِسَبَّابَةِ يَمينِهِ، وَأَنْطَقَهُ اللهُ فقَال: "إِنِّي عَبْدُ اللهِ" رَدًّا لِلْوَهْمِ الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى بعدَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ ابْنُ اللهُ، فقدْ عَلِمُ ـ سُبْحَانَهُ، أَنَّ ذَلِكَ سَيَكونُ مِنْهم.
وفي قولِهِ: "عَبْدُ اللهِ" المُؤَكَّدِ بِـ "إِنِّي" وَالْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَهُا تَنْبِيهٌ عَلَى بَرَاءَةِ أُمِّهِ "مريمَ" ـ عَلَيْها السَّلامُ، مِمَّا اتُّهِمَتْ بِهِ، لِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، لَا يُخَصُّ بِوَلَدٍ مَوْصُوفٍ بِالنُّبُوَّةِ وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ أُمًّا متَّهَمةً بشرَفِها وعرضِها، فلا بُدَّ مِنْ أَنْ تكونَ طاهرةً مُصْطَفاةً مُبَرَّأَةً مِمَّا يَعِيبُها ويُسِيءُ إِلى سُمْعَتِها حتَّى لا يُعيَّرَ وَلدُها بِها.
فَالعُبُوديَّةُ للهِ ـ جَلَّ شأْنُهُ، هِيَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ نَطَقَ ِبهَا سيدُنا عِيسَى ـ عليْهِ السلامُ، وهوَ صَبِيٌّ فِي مَهْدِهِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ زَجْرٌ لِلنَّصَارَى عَمَّا سيكونُ منهم في المُسْتقبلِ مِنِ ادِّعاءِهُمْ أَنَّهُ اللهُ، أَوِ ابْنُ اللهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ ذلكَ في آياتٍ أُخَرَ مِنْ كِتابِهِ الكريمِ، فقَالَ مِنْ سورةِ آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الآيةَ: 51، وَقَال مِنْ سُورَةِ المائدةِ: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} الآية: 72، وفي الآيةِ: 117، منها قالَ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وَقَالَ فِي الآية: 39، مِنْ هذِهِ السُورَةِ الكريمةِ: {وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، وَقَال مِنْ سورةِ الزُّخْرُفِ: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الآيتان: (63 و 64) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ آيَاتِ الذِّكْرِ الحكيمِ.
قولُهُ: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} أَيْ: قَدَّرَ لي أَنْ يُؤْتِيَني الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَني. فقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "قَالَ إِنِّي عبدُ الله آتَانِي الْكتابَ"، قَالَ: قَضَى فِيمَا قَضَى أَنْ أَكُونَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عِيسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، قَدْ دَرَسَ الْإِنْجِيلَ، وَأَحْكَمَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. فَذَلِك قَوْلُهُ: "إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكتابَ".
و "الْكِتابَ" هو الْإِنْجِيلُ، أَوِ التَّوْرَاةُ، أَوْ هُمَا معًا. وَالظَاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: "وَجَعَلَنِي نَبِيًّا" أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَكْمَلَ عَقَلَهُ وَاسْتَنْبَأَهُ طِفْلًا.
وقدْ عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَمَّا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، كَقَولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} الآية: 1، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الزُّمَر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ * ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآيات: (68 ـ 71)، ثمَّ قَالَ في الآيةِ: 73، منها: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}. ومِثْلُ ذَلِكَ كثيرٌ في كتبِ اللهِ الكريم.
وَ "الْكِتَاب" أَيْضًا: الشَّرِيعَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا تَغْيِيرٌ. فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْكِتَابِ عَلَى الشَرِيعَةِ التي آتاها اللهُ رَسولَهُ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَما أَطْلَقَ الْكِتَابَ عَلَى الْقُرْآنِ الكريم.
وَالْمُرَادُ بِـ "الْكِتَاب" هُنَا الْإِنْجِيلُ، وَهُوَ مَا كُتِبَ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي خَاطَبَ اللهُ تعالى بِهِ نبيَّهُ عِيسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ، فَيَكُونَ الْمُرادُ بالإِيتَاءِ إِيتَاءُ العِلْمِ بمَا فِي التَّوْرَاةِ، كَما هو في قَوْلِهِ تَعَالَى السَّابقِ مِنْ هذِهِ السُّورَةِ: {يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ} الآية: 12، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: "وَجَعَلَنِي نَبِيئًا" ارْتِقَاءً فِي الدرجاتِ الْمَرَاتِبِ الَّتِي آتَاهُ اللهُ إِيَّاهَا.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى عِيْسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "إِنِّي" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "عَبْدُ" خبرُها مرفوعٌ بها، مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، وَالجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالَ".
قوْلُهُ: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} آتَانِيَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تَعَالَى، والنُّونِ للوِقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحلِّ النَّصْبِ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّل. وَ "الْكِتَابَ" مفعولٌ بِهِ ثانٍ منصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنِ اسْمِ "إِنَّ".
قولُهُ: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "جَعَلَنِي" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوزًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلى "اللهِ" تعالى، والنُّونُ للوقايةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلَّ النَّصِبِ مَفْعُولٌ بهِ أَوَّلُ. وَ "نَبِيًّا" مفْعولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "آتَانِيَ الْكِتَابَ" السَّابِقَةِ.