قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا
(46).
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} هَذا هوَ جَوابُ أَبي إِبْرَاهِيمَ لِسَيِّدنا إبراهيمَ ـ عليهِ صَلَواتُ اللهِ وسلامُهُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ نُصْحِ إِبْراهِيمَ لَأَبيهُ، وَمَا أَبْداهُ لَهُ مِنْ حِرْصٍ عَلَيْهِ أَلَّا يَنَالُهُ غَضَبُ اللهِ تَعَالَى وعذابُهُ وَعِقابُهُ.
وَقَدْ جَاءَ جَوَابُهُ هَذَا في مُنْتَهَى القَسْوةِ والصَّلَفِ والْجَفَاءِ وَالْعُنْجُهِيَّةِ بِعَكْسِ مَا نُصْحِ إِبْرَاهِيمَ لَهُ فقدْ كانَ في منتهى واللُّطْفِ والرَّحْمَةِ وَاللِّينِ وَالرِّقَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى قَسْوةِ قَلْبِهِ، وقلَّةِ اسْتِيعابِهِ وفَهْمِهِ، وَشَدَّةِ تَعَصُّبِهِ لْلكُفْرِ، والتشَبُّثِ بِهِ والتَّصَلُّبِ فِيهِ.
وَالهَمْزَةُ في "أَرَاغِبٌ" هِيَ للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ، فهُوَ اسْتِنْكارٌ مِنْ أَبي إِبْراهيمَ لِتَجَافِي إِبْرَاهِيمَ ـ عَليْهِ السَّلامُ، عَنْ عِبَادَةِ أَصْنَامِهمْ الَّتي كانُوا يَعْبُدُونَها مُعْتَقِدينَ بِأَنَّها آلهَةٌ لَهُمْ، مُتَّخِذينَ مِنْهَا أَرْبابًا لَهم مِنْ دونِ اللهِ، أَوْ واسِطةً لَهُمْ بَيْنَهمْ وبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، يَتَقَرَّبونَ إِلَيْهِ بعبادَتِهم لَهًا، وَذَلِكَ لِضَلالِهمْ بِسَبَبِ ضَعْفِ عُقُولِهم، وسُخْفِ أَحْلامِهم، وقلَّةِ فَهْمِهِم.
وَقد أَضَافَ أَبُو إِبْراهيمَ هَذهِ الأَصْنام إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ إِضَافَةَ وِلَايَةٍ وَانْتِسَابٍ فَقَالَ: "آلَهَتِي" تَشَرُّفًا بِعِبَادَتِها وَاعْتَدادًا بِهَا.
ومَعْنَى: "رَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلهتي" مُجافٍ لَهَا، مُبْتعدٌ عَنْها كُفْرًا بها وَزْهْدًا في عبادَتِها، فالرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ، بِعَكْسِ الرَّغْبَةِ فِيهِ.
وَجاءَ النِّدَاءُ فِي: "يَا إِبْراهِيمُ" باسْتعمالِ أَدَاةِ نِداءِ البَعيدِ "يَا" تَكْمِلَةً لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حالِ إبراهيمَ ـ عليْهِ السَّلامُ، والْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنَّما يُقْصَدُ بِنِدَاءِ الْمُتَعَجَّبَ مِنْ فِعْلِهِ ـ مَعَ حُضُورِهِ، تَنْبِيهَهُ عَلَى سُوءِ حالِهِ وشَنَاعَةِ فِعْلِهِ، وَكَأَنَّهُ فِي غَيْبَةٍ عَنْ إِدْرَاكِ فَظَاعَةِ مَا يَفْعَلُ، فَيُنْزِلُهُ المُنَادي مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ، لِيعودَ إليْهِ رُشْدُهُ، ولذلكَ يَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: "يَا إِبْراهِيمُ"، واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قولُهُ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} يُهَدِّدُ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَبوهُ بِأَنْ يقتلَهُ رجْمًا بالحِجَارَةِ، وَقَدْ جاءَ باللَّامِ المُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ لِيُؤَكِّدَ عَزْمِهِ عَلَى ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِبْراهِيمُ عَنْ جَفْوَتِهِ لآلِهَتِهِمْ، وَيَرْجِعْ عَنْ كُفْرِهِ بِأَصْنَامِهِمْ.
وَالرَّجْمُ: هوَ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ حتَّى المَوْتِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عنِ الْقَتْلِ بِالرَّمْيِ بِهَا. وَقد أَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ إِمَّا حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّ الْوَالِدَ يَتَحَكَّمُ فِي عُقُوبَةِ ابْنِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ حَاكِمًا فِي قَوْمِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلكَ مِنَ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ، إِذْ لَعَلَّهُ كَانَ كَبِيرًا فِي دِينِهِمْ فَيَرْجُمُ قَوْمُهُ إِبْرَاهِيمَ اسْتِنَادًا لِحُكْمِهِ بِمُرُوقِهِ عَنْ دِينِهِمْ.
وَالْهَجْرُ: هو الكفُّ عَنِ الْمُحادثَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: "اهْجُرُني" عَلَى أَنَّ هَذَا الأَمْرُ بالْهَجْرَ هُوَ بِمَثابَةِ الطَّرْدِ لَهُ مِنْ كَنَفِهِ، إِشْعَارًا بِتَأْنِيبِهِ وَتَحْقِيرِهِ.
و "مَلِيًّا": طَوِيلًا، كقولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأَعْرافِ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ .. } الآيَتَانِ: (182 و 183)، مِنْ قولِكَ: أَمْلَى لَهُ، إِذَا أَطَالَ لَهُ الْمُدَّةَ، بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَة، فَـ "مَلِيًّا" صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، أَيْ هَجْرًا مَلِيًّا، وَمِنْهُ الْمُلَاوَةِ مِنَ الدَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ مِنَ الزَّمَانِ، قالَ تَعَالَى منْ سُورَةِ (مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ): {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} الآيةَ: 25، أَيْ: ومَدَّ لهم في الأَمانِيِّ والآمَالِ، وَقِيلَ المَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمْهَلَهُم ولَمْ يُعاجِلْهُمْ بالعُقُوبَةِ. قالَ الأَصْمَعِيُّ: أَمْلَى عَلَيْهِ الزَّمَنُ، أَيْ طالَ عَلَيْهِ، وأَمْلَى لَهُ أَيْ طَوَّلَ لَهُ وأَمْهَلَهُ. وقالَ ابْنُ الأَعْرَابِيّ: المُلَى: الرَّمَادُ الحَارُّ، والمُلَى: الزَّمانُ. وَيُقالُ: أَمْلَى عَلَيْهِ: إِذا لَقَنَّهُ ورَدَّدَ عَلَى مَسَامِعِهِ، والإِمْلاءُ عَلَى الكاتِبِ، والإِمْلالُ بمعنى، وأَمْلَيْتُ الكِتَابَ أُمْلِيهِ، وأَمْلَلْتُهُ أُمِلُّهُ: لُغَتَانِ جَيِّدتانِ فيه جاءَ بِهِمَا القُرْآنُ الكريمُ، قالَ تعالى منْ سُورَةِ البقرَةِ: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} الآية: 282، واسْتَمْلَيْتُهُ الكِتَابَ: سَأَلْتُهُ أَنْ يُمْلِيَهُ عَلَيَّ. والمَلاةُ فَلاةٌ ذاتُ حَرٍّ والجَمْعُ: (مَلًا)، قالَ الشاعرُ تأَبَّط شَرًّا:
ولَكِنَّني أُرْوي مِنَ الخَمْرِ هامَتي .... وأَنْضُو المَلا بالشَّاحِبِ المُتَشَلْشِلِ
قولُهُ: {الشَّاحِبِ المتشلشِل} هو الذي تَخَدَّدَ لَحْمُهُ وَقَلَّ.
وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الشَّيْءِ وطولِ مُدَّتِهِ. وَيُقالُ "مَلِيّ" بِوَزْنِ "فَعِيلٌ" بِمَعْنَى "فَاعِلٍ"، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مَصْدَرٌ وَلَا فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. فَمَلِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ مَصْدَرٍ مُمَاتٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله: "لَأَرْجُمَنَّكَ" قَالَ: لَأَشْتُمَنَّكَ، و "اهْجُرْني مَلِيًّا"، قَالَ: حِينًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "واهْجُرْني مَلِيًّا" قَالَ: اجْتَنِبْنِي سَالِمًا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "واهْجُرْني مَلِيًّا" قَالَ: سَالِمًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِد ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّهُ قالَ: "وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا" قَالَ: حِينًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي (الْوَقْفِ والابْتِداءِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنُ الْأَزْرَقِ، قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالى: "واهْجُرْني مَلِيًّا"، مَا المَلِيُّ؟. قَالَ: طَويلًا. قَالَ فِيهِ المُهَلْهِلُ:
وتَصَدَّعَتْ شُمُّ الْجِبَالِ لِمَوْتِهِ .............. وَبَكَتْ عَلَيْهِ المُرْمِلاتُ مَلِيًّا
ويُقالُ للَّيْلِ وَالنَّهارِ: "المَلَوانُ"، وَيُقَالُ أَيْضًا: مُلاوَةُ الدَّهْرِ ـ بِتَثْلِيثِ المِيمِ، وقَالَ الشاعرُ:
فَعُسْنا بِهَا مِنَ الشَّبَابِ مَلاوَةً ........... فالحَجُّ آياتُ الرُّسُولِ المُحَبِّبِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتِتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى أَبي إِبْراهيمَ، والجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "أَرَاغِبٌ" الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ. و "رَاغِبٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وَسَوَّغَ الابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ اعْتِمادُهُ عَلَى هَمْزَةِ الاسْتِفْهامِ، وَ "أَنْتَ" فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبَرِ. ويَجوزُ أَنْ يكونَ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَ "أَنْتَ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، والأَوَّلُ أَرُجَحُ بِوَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ:
ـ أَحَدُهُما: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَقْديمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ؛ إِذْ رُتْبَةُ الفاعِلِ التَّأْخِيرُ عَنْ فاعِلِهِ.
والآخَرُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الفَصْلُ بَيْنَ العامِلِ وَمَعْمُولِهِ بِمَا لَيْسَ مَعْمُولًا للعامِلِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ "عَنْ آلِهَتِي" مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَاغِبٌ"، فإِذَا جُعِلَ "أَنْتَ" فاعِلًا فَقَدْ فُصِلَ بِمَا هوَ كَالْجُزْءِ مِنَ العامِلِ، بِخِلافِ جَعْلِهِ خَبَرًا فإِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ إِذْ لَيْسَ مَعْمُولًا لِـ "راغِبٌ". وِ "أَنْتَ" فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ. و "عَنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَاغبٌ"، و "آلِهَتِي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وياءُ المُتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ". و "يَا إِبْرَاهِيمُ" يا: أداةُ نداءٍ للبَعيدِ، و "إِبراهيمُ" مُنَادَى مُفْرَدِ العَلَمِ، مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ في محلِّ النَّصْبِ على النِّداءِ. وجُمْلَةُ النِّداءِ هَذِهِ "يا إِبْراهيمُ" جملةٌ اعْتِراضِيَةٌ لَيْسَ لهَا مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ
قوْلُهُ: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} اللَّامُ: هي المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ. و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ. و "تَنْتَهِ"؛ فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَمْ" وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ منْ آخِرِهِ، وَفاعِلُهُ: ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتْ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا "إِبْرَاهِيمُ" عليْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {لَأَرْجُمَنَّكَ} اللامُ: هِيَ المُوْطِّئَةُ للقَسَمِ أَيضًا مُؤَكِّدَةٌ لِلامِ الأُولَى. و "أَرْجُمَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْح لِاتِّصالِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقيلَةِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُه (أَنْتَ) يَعَودُ عَلَى أَبي إِبْراهِيمَ، وَكَافُ الخِطَابِ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ، جَوَابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ"، وَجَوَابُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ، مَحْذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ القَسَمِ، والتَقْديرُ: إِنْ لَمْ تَنْتَهِ أَرْجُمْكَ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مُعْتَرِضِةٌ بَيْنَ القَسَم وَجَوَابهِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} الواوُ: للعطْفِ، وَ "اهْجُرْنِي" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ (أَنتَ)، يَعُودُ عَلَى "إِبْرَاهِيمُ" عَلَيْهِ السَّلامُ، والنُّونُ للوِقايَةِ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ ضَمِرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. وَالجُملَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذوفَةٍ، والتَقْديرُ: فاحْذَرْنِي وَاهْجُرْني، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ عَطْفَ الجُملةِ الإِنْشَائِيَّةِ عَلَى الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ عَلَى أَنَّ سِيبَوَيْهِ يُجِيزُ عَطْفَ الجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ عَلَى الجملةِ الإِنْشائيَّةِ، فَلَيْسَ هَذَا التَقْديرُ بِلازمٍ، فَيَجُوزُ عَطْفُهَا عَلَى جملةِ قولِهِ: "لَأَرْجُمَنَّكَ". و "مَلِيًّا" منصوبٌ على الظَرْفيَّةِ الزَمَانيَّةِ مُتَعَلَّقٌ بِـ "اهْجُرْني"، وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ "اهْجُرْني"، وَمَعْنَاهُ: سِالِمًا سَوِيًّا لَا يُصِيبك مِنِّي شدَّةٌ أَوْ مَعَرَّةٌ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ منصوبًا على أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: هَجْرَا مَلِيًّا يَعْنِي: وَاسِعًا مًتَطاوِلًا كَتَطَاوَلَ الزَّمَانِ المُمْتَدِّ.