وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا
(14)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} أَيْ: مُطِيعًا لَهُمَا، مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، لَطيفًا بِهِما، فـ "بَرًّا" أَيْ: "بَارًا"، فهوَ "فَعْلٌ" بِمَعْنَى "فاعِلٍ"، ومَا مِنْ عَبَادَةٍ ـ بَعْدَ تَعْظيمِ اللهِ تَعَالى، أَعْظَمُ مِنْ بِرِّ الوالدَيْنِ، لقولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الإسْراءِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا} الآيةَ: 23. فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ طاعَتَهُ لِمَوْلاهُ، وَتَقواهُ وزكاتَهُ، ذَكَرَ هُنَا طاعَتَهُ لوالِدَيْهِ، وبِرَّهُ بهماِ، وإِحْسانَهُ إِلَيْهِما.
قولُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} بَلْ كانَ هينًا ليِّنًا كريمَ الصِّفَاتِ طَيَّبَ العِشْرَةِ، حَسَنَ المُعَامَلَةِ، تَقِيًّا نَقِيًّا مُطِيعًا لِمَوْلاهُ رفيقًا بِوالِدَيْهِ.
إِذًا فَقَدِ اسْتَجابَ اللهُ تَعَالى دُعاءَ نَبِيَّهُ "زَكَرِيَّا"؛ لِأَنَّهُ كانَ يَخَافَ المَوَالِيَ مِنْ وَرائِهِ، فَوهَبَهُ الوَلَدَ البارَّ بِهِ وَبِزَوْجِهِ، لِيَكونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُمَا، ولَيَجِدا مِنْهِ حُسْنَ الصُّحْبَةِ.
وَأَخْرَجَ الأَئِمَّةُ، عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا" قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَلْقَى اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا ذَا ذَنْبٍ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا))، قَالَ قَتَادَةُ: وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَذْنَبَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا قَطُّ، وَلَا هَمَّ بِامْرَأَةٍ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "بَرًّا" منصوبٌ عطْفًا عَلَى "تَقِيًّا" مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا عَلَى كوْنِهِ خَبَرَ "كان"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ نَصْبُهُ بِفِعْلٍ مَحذوفٍ والتقْديرُ: وَجَعَلْناهُ بَرًّا. وَ "بِوَالِدَيْهِ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بَرًّا"، و "وَالِدَيْهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامَةُ جرِّهِ الياءُ: لأَنَّهُ مثنَّى، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ.
قوْلُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "لَمْ" حَرْفُ جَزْمٍ ونَفْيٍ وَقَلْبٍ. و "يَكُنْ" فعلٌ مُضارعٌ ناقصٌ مَجْزومٌ بـ "لم"، وعَلامَةُ جَزْمِهِ السُّكونُ الظاهِرُ عَلى آخِرِه، وقدْ حذِفتِ الواوُ قبلَها لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ لأَنَ الأصلَ "يكون"، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيها جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "يَحْيَى" عَلَيْهِ السَّلامُ. و "جَبَّارًا" خَبَرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِها. و "عَصِيًّا" خبرٌ ثانٍ لها، أَوْ صِفَةٌ لِـ "جَبَّارًا" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُها. وصيغةُ فَعُولٌ للْمُبَالَغَةِ كَ "صَبُوْرِ". ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ وَزْنُهُ "فَعُولًا"، وَالأَصْلُ: "عَصُوْيٌ" فَفُعِلَ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي نَظَائِرِهِ، وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ وَزْنُهُ فَعِيلًا، وَهيَ أَيْضًا صِيغَةٌ للمُبَالَغَةِ. وَالجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "كَانَ" مِنَ الآيةِ التي قبلَها، عَلى كَوْنِها مَعْطوفَةً عَلى جُمْلَةِ "آتَيْنَا" المُسْتَأْنَفَةِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {بَرًّا} بفتْحِ الباءِ، وَقَرَأَ الحَسَنُ: "بِرًّا" بِكَسْرِها فِي المَوْضِعَيْنِ. وتَأْويلُهُ وَاضِحٌ فهوَ كَقَوْلِهِ منْ سورةِ البَقَرَةِ: {وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ} الآية: 177.