يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44).
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} نِداءٌ آخَرُ يُوَجِّهُهُ سَيِّدُنا إِبْراهيمُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، لِأَبِيهِ آزَرَ أَلَّا يُطيعَ الشَّيْطانَ فِيمَا يُوَسْوِسَ لَهُ بِهِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ مَعْنًى مِنْ مَعَاني العِبَادَةَ. فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: مَعْنَى "لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ" لَا تُطِعْهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَجَّاجُ: مَعْنَى عِبادَةِ الشَّيْطانِ: طَاعَتُهُ فِيمَا يُسَوِّلُ مِنَ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي. مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ للزَّجَّاجِ: (3/332).
فَإِنَّ عِبَادَتَكَ لِلْأَصْنَامِ عِبادَةٌ لَلشَّيْطانِ، إِذْ هُوَ الذي يُسَوِّلُهَا لَكَ وَيُغْريكَ عَلَيْهَا. فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ العِلَّةَ فِي مَنْعِهِ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطانِ عِصْيَانُهُ للرَّحْمَنِ، فَبَانَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكونَ طاعَةٌ لِمَنْ يَعْصِي اللهَ بِحَالٍ.
قولُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 117، منْ هَذِهِ السُّورةِ المباركةِ: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطانًا مَرِيدًا}، وَفِي هَذَا تَبْغِيضٌ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، لِأَنَّ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِ النَّاسِ بُغْضَ الشَّيْطَانِ وَالْحَذَرَ مِنْ كَيْدِهِ. وَإِنَّ كلَّ ما يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطانُ فِيهِ مَعْصِيَةٌ للهِ تَعَالَى. لأَنَّ المَعْصِيَةَ للهِ مُتَأَصِّلةٌ فِيهِ، مُتَمَكِّنَةٌ مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُطِيعَهُ البتَّةَ، بِعَكْسِ المَلاكِ، فَإِنَّ المَعْصِيَةَ مِنْهُ مُسْتَحيلَةٌ.
وَفِي هَذا تَعْلِيلٌ لِمُوجِبِ النَّهْيِ، وَتَأْكِيدٌ لَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُ مُسْتَعْصٍ عَلَى مَنْ شَمَلَتْكَ رَحْمَتُهُ، وَعَمَّكِ إِنْعامُهُ. وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ المُطيعَ للعاصِي عاصٍ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ عَاصٍ لِمَوْلاهُ حَقيقٌ بِأَنْ تُسْتَرَدَّ مِنْهُ نِعَمُهُ، وَتُحْجَبَ عَنْهُ رَحْمَتُهُ، وَيُنْتَقَمَ مِنْهُ أَقْسَى انْتِقامٍ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} يَا أَبَتِ: مُنَادَى مُضَافٌ تقدَّمَ إِعْرابُهُ في الآيةِ: 42، السابقةِ. و "لَا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَعْبُدِ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَّاهِيَةِ، وقدْ حُرِّكَ بالكَسْرِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى أَبي إِبْراهِيمَ، و و "الشَّيْطَانَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قالَ" عَلَى كَوْنِهَا جَوابَ النِّداءِ.
قوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوْكيدِ. و "الشَّيْطَانَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "كَانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "الشَّيْطَانَ". و "لِلرَّحْمَنِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَصِيًّا". و "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ للجَلَالَةِ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "عَصِيًّا" خَبَرُ "كَانَ" مَنْصوبٌ بهَا، وَجُمْلَةُ "كَانَ" هَذِهِ معَ اسْمِها وخَبَرِها فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "إِنَّ"، وجُمْلةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَهَا عَلَى كَوْنِهَا مَقُولَ القولِ لِـ {قَالَ}.