يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أُخْت: مُؤَنَّثُ "أَخُ": وهما اسْمانِ لَا يَأْتي أَحَدُهما إِلَّا مُضَافًا إِلَى اسْمٍ آخَرَ غَيْرِهِ، فَلا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى إِلَّا عَلى ابْنِ أَبَوَيْ الاسْمِ المُضَافِ إِليْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوِ ابْنَتِهِ. وَإِذَا كَانَ الاسْمُ المُضافُ إِليْهِ اسْمًا لِقَبِيلَةٍ، أَوْ عَشِيرَةٍ أَوْ قومٍ، أُطْلِقُ عَلَى مَنْ يكُونُ مِنْ أَبْنَاءِ صَاحِبِ هَذَا الِاسْمِ الَّذِي أُضَيفَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ: يَا أَخَا الْعَرَبِ، أَوْ يا أَخْتَ العرَبِ، وكَمَا جاءَ فِي حَدِيثِ ضَيْفِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ لِزَوْجِهِ: (يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟)، فقد أَخرجَ الأَئمَّةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَرَّةً: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ (أَيْ: مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ)، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ أَرْبَعَةٍ فَلْيَذْهَبْ بِخَامِسٍ، أَوْ سَادِسٍ، أَوْ كَمَا قَالَ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وَانْطَلَقَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِعَشَرَةٍ، وَأَبُو بَكْرٍ وَثَلاَثَةً، قَالَ: فَهُوَ أَنَا، وَأَبِي، وَأُمِّي، وَلاَ أَدْرِي هَلْ قَالَ: امْرَأَتِي، وَخَادِمِي، بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ؟ أَوْ ضَيْفِكَ؟ قَالَ: أَوَ عَشَّيْتِهِمْ؟ قَالَتْ: أَبَوْ حَتَّى تَجِيءَ ، قَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِمْ، فَغَلَبُوهُمْ، فَذَهَبْتُ فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ (يا جاهلة)، فَجَدَّعَ (جَرَّحَ) وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا، وَقَالَ: لَا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، قَالَ: وَايْمُ اللهِ، مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنَ اللُّقْمَةِ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، حَتَّى شَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلُ، فَنَظَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَإِذَا شَيْءٌ، أَوْ أَكْثَرُ، قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ، قَالَتْ: لاَ، وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهْيَ الآنَ أَكْثَرُ مِمَّا قَبْلُ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ، يَعْنِي يَمِينَهُ، ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَمَضَى الأَجَلُ، فَتَفَرَّقْنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، غَيْرَ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ، قَالَ: أَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ) مُسْنَدُ أحمدُ: (1/197 برقم: 1702)، وَصحيح البُخَارِي: (1/156، برقم: 602)، وَصحيح مُسلِمٌ: (6/130، برقم: 5415)، وسُنَن أبي داودَ برقم: (3271)، وغيرُها. فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ (بَنِي) مُضَافًا إِلَى اسْمِ جَدِّ الْقَبِيلَةِ كَانَ مُقَدَّرًا، كما هو في قَولِ سَهْلِ بْنُ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ:
يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحَضَارَةْ ............... كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَةْ
يُرِيدُ يَا أُخْتَ أَفْضَلِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِنْ بَدْوِهَا وَحَضَرِهَا. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "يَا أُخْتَ هارُونَ" عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَيَكُونَ لِمَرْيَمَ أَخٌ اسْمُهُ "هَارُونُ" كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فِي قَوْمِهِ، فخَاطَبُوهَا بِإِضَافَتِها إِلَيْهِ، ويكوُ ذلكَ زِيَادَةً فِي تَوْبِيخِها، أَيْ مَا كَانَ لِأُخْتِ رجُلٍ صالحِ مِثْلِهِ أَنْ تَفْعَلَ ما فَعَلْتِ، وَهَذَا هو الأَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ، لِمَا روى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تَقْرَؤونَ" "يَا أُخْتَ هارُونَ" وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمُ)). أخرجه الأَئمَّةُ: ابْنُ أُبي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ: (14/551)، وأَحْمَدُ: (4/252)، ومُسْلِمٌ: (3/1685)، والتِرْمِذِيُّ: (5/315، برقم: 3155)، والنَّسائيُّ: (2/29، برقم: 335)، والطَبَرِيُّ: (16/77 ـ 78)، والطَبَرانيُّ في (المُعْجَمِ الكَبيرِ): (20/411، برقم: 986)، والبَيْهَقِيُّ فيِ "دلائلِ النُّبُوَّةِ": (5/392)، وابْنُ حِبَّان: (6250)، والبَغَوِيُّ في تَفْسيرِهِ: (3/194).
فَفِي هَذَا تَجْهِيلٌ لِنَصارى نَجْرَانَ، أَنْ طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ الكريمِ عَلَى تَوَهُّمِ منهم أَنْهُ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَنِ اسْمُهُ هَارُونُ، إِلَّا هَارُونَ الرَّسُولَ، أَخَا مُوسَى ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ المُرادُ أَنَّهَا مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، كَما قَالَ أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في الحديثِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ. فإنَّ نَسَبَ مَرْيَمَ ينْتَهي إِلَى هَارُونَ أَخِي مُوسَى ـ عَلَيْهمُ السَّلامُ، فهي مِنْ سِبْطِ لَاوِي. جاءَ فِي "إِنْجِيلِ لُوقَا" أَنَّهُ كَانَ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَاسْمُهَا إِلْيَصَابَاتُ، وَإِلْيَصَابَاتُ زَوْجَةُ زَكَرِيَّا نَسِيبَةُ مَرْيَمَ، أَيِ ابْنَةِ عَمِّهَا (تَقَدَّمَ أَنها خالتُها)، وَأَمَّا ما قَالَهُ بعضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ نَسَبِ مَرْيَمَ يَنْتَهي إلى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فهوَ وهمٌ.
وروى عطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ: (إِنَّ مَرْيَمَ كانَتْ عابدَةً، وكانَ في بَنِي إِسْرائيلَ رَجُلٌ عابِدٌ يُقالُ لَهُ هارونَ، تَبِعَ جَنَازَتَهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا كُلُّهم اسْمُهُ هارونَ) تفسيرُ "جامِعُ البَيَانِ" للطبريِّ: (16/77)، وتفسيرُ "مَعَالِمُ التَنْزيلِ" للبغويِّ: (5/228)، وتفسيرُ القرطُبيِّ "الجامِعُ لِأَحْكامِ القُرْآنِ": (11/100). وَقالَ قَتَادَةُ، وكَعْبٌ، وابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم: (هَارُونُ رَجُلٌ صالحٌ مِنْ بَني إِسْرائيلَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ مَنْ عُرِفَ بِالصَّلاحِ)، "تَفْسيرُ القرآنِ" لِعَبْدِ الرَّزاقِ الصَّنْعانيِّ: (2/9)، و "جَامِعُ البَيَانِ" للطَبريِّ: (16/77)، "النُّكَتُ والعُيُونُ" للماوردي: (3/368)، و "المُحَرَّرُ الوَجيزُ" للواحديِّ: (9/459)، و "مَعالِمُ التَنْزِيلِ" للبغويِّ: (5/228).
قولُهُ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} سَّوْء ـ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْوَاوِ: مَصْدَرُ سَاءَهُ، يَسُوءُهُ، إِذَا أَضَرَّ بِهِ، أَوْ أَفْسَدَ عليْهِ بَعْضَ حَالِهِ، فَإِضَافَةُ اسْمٍ إِلَيْهِ تُفِيدُ أَنَّ ذلكَ مِنْ شُؤونِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ مَصْدَرٌ للسَّوْءِ. فَمَعْنَى "امْرَأَ سَوْءٍ" رَجُلَ عَمَلٍ مُفْسِدٍ.
قولُهُ: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} بغيًّا: كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا أَتَتْ بِأَمْرٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِهَا، أَيْ أَتَتْ بِسَوْءٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَبِيهَا، وَبِغَاءٍ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أُمِّهَا، وَخَالَفَتْ سِيرَةَ، أَخيها وَأَبَوَيْهَا، فَكَانَتِ "امْرَأَةَ سَوْءٍ" وَكَانَتْ "بَغِيًّا" فَكَانَتْ فِي أَهْلِهَا مُبْتَكِرَةً للفَاحِشَةِ. فقدْ أَرَادُوا ذَمَّهَا فَأَتَوْا بِكَلَامٍ صَرِيحُهُ ثَنَاءٌ عَلَى أَبَوَيْهَا، ومضمونُهُ أَنَّ شَأْنَهَا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ أخيها وأَبَوَيْهَا فيجبُ أَلَّا تُسِيءَ وتُفْسِدَ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: كَانَ فِي زمَانِ بَني إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمُقَدَّسِ، عِنْدَ عَيْنِ سلوانَ عَيْنٌ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذا قَارَفَتْ، أَتَوْها بِهَا فَشَرِبَتْ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَريئَةً لَمْ تَضُرَّها، وَإِلَّا مَاتَتْ.
فَلَمَّا حَمَلَتْ مَرْيَمُ أَتَوْها بِهَا عَلَى بَغْلَةٍ، فَعَثَرَتْ بِهَا فَدَعَتِ اللهَ أَنْ يُعْقِمَ رَحِمَهَا، فَعَقُمَ مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَلَمَّا أَتَتْها شَرِبَتْ مِنْهَا، فَلَمْ تَزْدَدْ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ دَعَتِ اللهَ أَنْ لَا يَفْضَحَ بِهَا امْرَأَةً مُؤْمِنَةً، فَغَارَتِ الْعَيْنُ.
قولُهُ تَعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} يا: أَداةٌ للنِّداءِ، و "أختَ" منصوبٌ بالنِّداءِ مُضافٌ، و "هارونَ" مجرورٌ بالإضافةِ، وعلامةُ جرِّهِ الفتحةُ نيابةً عَنِ الكَسْرةِ لأنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجمةِ. وَجُمْلَةُ النِّداءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولَ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} مَا: نَافِيَةٌ، و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْح. و "أَبُوكِ" اسْمُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ: لأَنَّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "امْرأَ" خَبَرُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. و "سُوءٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولَ "قَالُوا" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "ما" نافِيَةٌ، و "كَانَتْ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ الساكنةُ لتَأْنيثِ الفاعلِ. و "أُمُّكِ" اسْمُهُ مرفوعٌ بِهِ، مُضافٌ. وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "بَغِيًّا" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ في محلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا.
قرأَ الجمهورُ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} فالمعرفةُ اسمُ "كانَ"، والنَّكِرةُ خبرُها، وقَرَأَ عُمَرُ بْنُ لجَأَ "مَا كَانَ أَباكِ امْرُؤَ سَوْءٍ" فجَعَلَ النَّكِرَةَ اسْمَ كانَ، والمَعْرِفَةَ خَبَرَها، وهذا كَقَوْلِ حَسَّانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، مِنْ قصيدةٍ يمدحُ فيها رسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ:
كأَنَّ سَبيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ .................... يَكُونُ مزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ
وكقولِ الشاعِرِ القَطامِيِّ، واسْمُهُ عُمَيْرُ بْنُ شُيَيْمٍ:
قِفي قَبْلَ التَّفَرُقِ يَا ضُبَاعَا ................ وَلَا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاْعا
وقد جاءَ هُنَا في الآيةِ أَحْسَنَ لِوُجودِ الإِضافَةِ فِي الاسْمِ.