يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} يَا يَحْيَى: أَيْ: فَلَمَّا وُلِدَ يَحْيَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَبَلَغَ مِنَ العمْرِ ما يُؤْمَرُ فيهِ مِثْلُهُ قُلْنَا: "يَا يَحْيَى"، وقد حُذِفَ هَذَا مُسارَعةً إِلَى الإنْباءِ بإِنْجازِ الوَعْدِ الإِلَهِيِّ الكَريمِ. والقائلُ هوَ اللهُ تَعَالَى عَلى لِسَانِ المَلَكِ المكلَّفِ بِذَلِكَ كَمَا جَرَتِ العادَةُ فِي تَبْليغِ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أَوَامِرَ اللهِ تَعَالى وتَعَالِيمَهُ، وَاللهُ أعلمُ.
وَ "خُذ" الْأَخْذُ: مُسْتَعَارٌ هُنَا للدِّراسَةِ، والتَّفَهُّمِ، وَالتَّدَبُّرِ، والتَبَصُّرِ، والعَمَلِ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذْتُ الْعِلْمَ عَنْ فُلَانٍ، ذلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَنِي بِالشَّيْءِ يُشْبِهُ الْآخِذَ بِهِ.
و "الكَتَابُ" هوَ مَا خُصَّ بِهِ نَبِيُّ اللهِ يَحْيَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ، مِنْ تَعَالِيمَ رَبَّانيَّةٍ، وأَنْوارٍ عِرْفانِيَّةٍ، وشرائعَ إلهيَّةٍ، كَمَا خُصَّ بمِثْلِهِ كَثيرٌ مِنَ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ السَّلامُ.
وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "الـ" هُنَا هيَ للعَهْدِ، وَلَا مَعْهودَ ـ إِذْ ذَاكَ، سِوَى التَوْراةِ، إِذًا فَهوَ المُرادُ بِـ "الكِتَابِ"، وبِهِ قالَ كثيرٌ مِنَ المُفَسِّرينَ، حتَّى ادَّعى بعضُهُمُ الإجماعَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: "أَلـ" هُنَا للجِنْسِ، وَعَلَيْهِ فإِنَّ المُرادَ أَيُّ كتابٍ مِنْ كُتُبِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ كُلَّها. وَقِيلَ: المُرَادُ هوَ صُحُفُ سَيِّدِنا إِبْراهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، واللهُ أَعْلمُ.
و "بِقُوَّةٍ" الْبَاءُ هيَ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَخْذًا مُلَابِسًا لِلثَّبَاتِ عَلَى الْكِتَابِ، وَالمُرادُ بالقوَّةِ هُنَا هوَ القُوَّةُ المَعْنَوِيَّةُ مِنْ عَزْمٍ وثَبَاتِ، أَيْ: بِحفْظِ مَا فِيهِ، وَكَثْرَةِ اسْتِظْهارِهِ، وَدِرَاسَةِ ما فيهِ وَفَهْمِهِ، واعْتِقادِ عقائدِهِ، والتِزامِهِ والعَمَلِ بِمَا فِيهِ بِجِدٍّ ونَشَاطٍ واجْتِهَادٍ، وَالتَّقَيُّدِ بِأَوامِرِهِ ونَوَاهِيهِ، وقوانِينِهِ وَتَشْريعاتِهِ. وَإِنَّما يَكونُ ذَلِكَ بِعَوْنٍ مِنَ اللهِ تَعَالى وتَوْفيقِهِ. أَيْ قُلْنَا لَهُ يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ مِنَّا، خَصَصْنَاكَ بها، وَهِيَ قوَّةُ النُّبُوةِ، لَا قُوَّةَ يَدٍ وَلَكِنْ قُوَّة قَلْبٍ.
قوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أيْ: أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ اسْتِقَامَةَ الْفِكْرِ وَإِدْرَاكَ الْحَقَائِقِ فِي حَالِ الصِّبَا عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ، كَمَا أَعْطَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الِاسْتِقَامَةَ وَإِصَابَةَ الرَّأْيِ فِي صِبَاهُ. وَ "الحُكْمَ" الحِكْمةُ الفَهْم والتَّقْوَى، وقِيلَ: العَقْلَ، وَقِيلَ: الفِراسَةَ الصَّادِقَةَ، وَقِيلَ: مَعْرِفَةَ آدابِ الخِدْمَةِ لمولاهُ ـ جَلَّ جلالُهُ العظيمُ، وَقِيلَ المَعْنَى: أَجْرَيْنَا الحِكْمَةَ عَلى لِسَانِهِ في حَالِ صِغَرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ بِصِبْيانٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالُوا لَهُ: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبْ، فَقَالَ: أَلِلَّعَبِ خُلِقْنا؟، اذْهَبُوا نُصَلِّي، فهُوَ قوْلُهُ تَعَالَى: "وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ صَبِيًّا". وَعَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الحُكْمَ بِمَعْنَى الحِكْمَةِ. وَقِيلَ النُّبُوَّةَ، والذي أَرَاهُ أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أُوتيَ ذَلِكَ كُلَّهُ، لأَنَّ جَمِيعَ ما ذُكِرَ هوَ مِنْ لَوَازِمِ النُّبُوَّةِ، وصِفاتِ النَّبِيِّينَ ـ عَلِيْهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ، فالنَّبِيُّ عاقلٌ حَكيمٌ، فهيمٌ، تَقِيٌّ، ذُو فِراسَةٍ، عَالِمٌ بِمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالى.
و "صبيًا" أَيْ أنَّهُ ـ عليْهِ السَّلامُ، أَوتي مَا تَقَدَّمَ ذكْرُهُ في سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ، فَقِيلَ: كانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَقيلَ: سَنَتَيْنِ، وقِيلَ ثَلاثَ سِنِينَ، فقدْ أَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا" قَالَ: وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَالأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: أُعْطِيَ الفَهْمَ والعِبَادَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. والمَعْروفُ أَنَّ أَكْثَرَ الأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، لَمْ يُنَبَّأْ قَبْلَ الأَرْبَعِينَ.
قولُهُ تَعَالَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} يَا: أَداةٌ لِلنِّداءِ. و "يَحْيَى" مُنَادَى مُفْرَدُ العَلَمِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالنِّداءِ. وجُمْلَةُ النِّداءِ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ مَعْطوفٍ عَلَى مُقَدَّرٍ، والتقديرُ: فَحَمَلَتْ أُمُّ يَحْيَى بِهِ، وَوَضَعَتْهُ، وبلغَ مِنَ العُمْرِ ما يُمْكِنُ أَنْ يُخاطَبَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ اللهُ ـ جَلَّ وعزَّ، عَلى لِسَانِ المَلَكِ: "خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ". و "خُذْ" فِعْلٌ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى "يَحْيَى" ـ عليْهِ السَّلامُ. و "الكِتَابَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. والجُمْلَةُ واقعةٌ جوابًا للنِّداءِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "بِقُوَّةٍ" الباءُ: حرفُ جرٍّ للمُلابَسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ فَاعِلِ "خُذِ"، أَوْ مِنْ مَفعولِهِ؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِجِدٍ واجْتِهَادٍ.
قوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "آتَيْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ. و "الحُكْمَ" منصوبٌ على المفعوليَّةِ أيضًا لأَنَّ الفعلَ "آتَى" بِمَعْنَى "أَعْطَى"، والجُمْلَةُ مُسْتَأَنْفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلٍ مَحْذُوفٍ؛ والتقديرُ: فَقُلْنا لَهُ: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بقوَّةٍ وآتَيْنَاهُ الحُكمَ"، فهيَ في محلِّ النَّصْبِ بالقولِ. و "صَبِيًّا" منصوبٌ على الحالِ مِنَ الهاءِ في "آتَيْنَاهُ".