وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} أَيْ: وَاذْكُرْ ـ أَيْضًا، في الكِتَابِ يَا رسولَ اللهِ خَبَرَ نَبِيِّنَا إِدْريسَ ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ. وَ "إِدْرِيس" هُوَ سِبْطُ نَبِيِّ اللهِ شِيثٍ، وَجَدُّ أَبي نُوحٍ، وَاسْمُهُ عِنْدَ الْيُونَانِيِّينَ (هَرْمَسُ)، وَقيلَ أَنَّهُ يُسَمَّى عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ الْقُدَمَاءِ (هَرْمَسُ) أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ (تُوتٌ)، أَوْ (تُحُوتِي)، أَوْ (تُهُوتِي)، لَهَجَاتٌ فِي النُّطْقِ بِاسْمِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْعِبْرِيِّ فِي (تَارِيخِهِ): أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ يُلَقَّبُ عِنْدَ قُدَمَاءِ الْيُونَانِ (طُرَيْسَمَجِيسَطِيسَ)، وَمَعْنَاهُ بِلِسَانِهِمُ ثُلَاثِيُّ التَّعْلِيمِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِفُ اللهَ تَعَالَى بِثَلَاثِ صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ، وَهِيَ: الْوُجُودُ، وَالْحِكْمَةُ، وَالْحَيَاةُ. وكانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ نُوحٍ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، أَلْفُ سَنَةٍ، فَنُوحٌ هوَ ابْنُ لامِكٍ بْنِ مُتَوَشْلِخِ بْنِ أَخْنُوخ، وَهُوَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ إِلى أَهْلِ الأَرْضِ، مِنْ بَعْدِ آدَمَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ.
وَ "إِدْرِيسُ" لَقَبُهُ، لَقَّبَهُ بِهِ القُرْآنُ الكريمُ، قِيلَ لُقِّبَ بِهِ لِكَثْرَةِ دِرَاسَتِهِ مَا أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِهِ، ومُذاكَرَتِهِ، فهوَ مُشْتَقٌّ مِنَ المُذاكَرةِ والدِّراسَةِ. وَلِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ اللهَ ـ تباركَ وتَعَالى.
وكانَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، خَيَّاطًا، فَكانَ لَا يُدْخِلُ الإِبْرَةَ إِلَّا ويَذُكُرُ اللهَ، وَلَا يُخْرِجُهَا إِلَّا وَيَذْكُرُهُ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى. إِذْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ فِي أَحْوالِهِ كُلِّها، شاكِرًا لأنْعُمِهِ عَلَيْهِ.
رُوِيَ أَنَّ الشَّيْطانَ جاءَ بِفُسْتُقٍ إِلَى نَبِيِّ اللهِ إِدْرِيسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِيَفْتِنَهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ الفُسْتُقَةِ؟ فَقَالَ لَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: (اللهُ قادِرٌ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ الدُّنِيَا كُلَّهَا فِي سَمِّ هَذِهِ الإِبْرَةِ)، وَكانَتِ الإِبْرَةُ فِي يَدِهِ فنَخَسَ عَيْنَ الشَّيْطَانِ بِهَا.
قالَ ابْنُ وَهْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إِنَّ إِدْريسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، دَعَا قَوْمَهُ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ"، فَامْتَنَعُوا مِنْ تَلْبِيَةِ دَعْوتِهَ فَأَهَلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى، بِكُفرِهِمْ بِرَبِّهم.
وَفي حَديثِ أَبي ذَرٍّ الغِفاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، الذي رَوَاهُ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، فِي تَفْسيرِهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسٍ الخَوْلانيِّ، عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمِ الأَنْبِياءُ؟. قَالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مِئَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟. قالَ: ((ثَلاثُمِئَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ ـ جَمٌّ غَفِيرٌ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ كَانَ أَوْلَّهُمْ؟. قَالَ: ((آدَمُ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟. قالَ: ((نَعَمْ، خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ قِبَلًا)). ثُمَّ قَالَ: ((يا أَبَا ذَرٍّ، أَرْبَعَةٌ سُرْيانِيُّونَ: آدَمُ، وَشِيثُ، وَنُوحٌ، وَخَنُوخٌ ـ وَهُوَ إِدْرِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِقَلَمٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ العَرَبِ: هُودٌ، وَصالِحُ، وَشُعَيْبٌ، وَنَبِيُّكَ، يَا أَبَا ذَرٍّ، وَأَوَّلُ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى، وآخِرُهُمْ عِيسَى. وَأَوَّلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ، وَآخِرُهُمْ نَبِيُّكَ)). وَهَذَا جزْءٌ مِنْ حَديثٍ طَويلٍ رواهُ الحافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ أَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ فِي كِتَابِهِ: "الأَنْوَاعُ والتَّقاسِيمُ" وقال هوَ صَحيحٌ، وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَديثِ الشَّفَاعَةِ، وَقولِ أَهْلِ المَحْشَرِ لِنَبِيِّ اللهِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنَّكَ أَوْلُ رَسُولِ، بِأَنْ تَكُونَ رِسَالَتُه لِقَوْمِهِ خَاصَّةً، كَ "هُودٍ" و "صَالِح"، و "آدَم" و "شِيث".
قالَ ابْنُ عَطِيَّةٍ: وَالأَشْهَرُ أَنَّ إِدْرِيسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يُرْسَلْ، وَإِنَّمَا هُوَ نَبِيٌّ فَقَطَ، وإِليْهِ ذَهَبَ ابْنُ بَطَّالٍ. وهوَ مَدْفُوعٌ بِمَا تقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَالمَشْهُورُ أَنَّ إِدْريسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ رَسُولًا إِلى قَوْمِهِ. ورُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ ثَلاثينَ صَحِيفَةً، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بالقَلَمِ، ونَظَرَ فِي عِلْمِ النُّجومِ والحِسَابِ، وَخَاطَ الثِّيابَ. واللهُ أعلمُ.
قوْلُهُ: {إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} الصِّدِّيقُ كَثيرُ الصِّدْقِ، الذي لَا يَشُوبُ صِدْقَهُ عَلَقٌ ولا مَذْقٌ، القائمُ للهِ بِالحَقِّ، الذي لَا نَفَسَ فيهِ لِغَيْرِ مَوْلاهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ. وَلَا نَفْسَ لَهُ مَعَهُ ـ تَعَالى، والصِّدِّيقِيَّةُ هي نِهايَةُ سُلَّمِ الوِلايَةِ، فَلَيْسَ للعبَادِ مَرْتَبَةٌ فَوَقَ هذِهِ الرُّتبةِ إلَّا النُّبُوَّةُ، فَكُلُّ نَبِيٍّ صِدِّيقٌ، وَلَيْسَ كُلُّ صِدِّيقٍ نَبِيُّ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "اذْكُرْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَعْطُوفٌ عَلى "اذْكُرْ" الأَوَّل، ولَهُ مِثلُ إعرابِهِ. و "في" مُتَعَلِّقٌ بِـ "اذْكُرْ"، وَ "الْكِتَابِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "إِدْرِيسَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، ولمْ يُنَوَّنْ لأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمةِ. والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ قولِهِ وَ {اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنفةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} وَ "إِنَّهُ" إنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتوكيدِ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ، مبنيٌّ على الفَتَحِ، واسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى نبيِّ اللهِ إِدْرِيسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَ "صِدِّيقًا" خَبَرُ "كانَ" الأولُ. و "نَبِيًّا" خَبَرٌ ثانٍ لَها، وجُمْلَةُ "كَانَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ على أنَّها خَبَرُ "إنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.