إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
قولُهُ ـ تَعالَى شَأْنُهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها} وقالَ في الآية: 23، مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}. أَيْ: سوفَ نُمِيتُ سُكَّانَ الأَرْضِ ونُهْلِكُهُمْ فَنَرِثُهَا ونَرِثُ مَنْ عَلَيْها. وَهَذا تَهْدِيدٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْ قَبْضَةِ اللهِ الْوَاحِدِ الأَحَدِ، الَّذِي أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ مَخْلوقاتِهِ بِالعِبَادَةِ، وَأَنَّهم وَآلِهَتَهُمْ تِلْكَ التي يَرْجُونها لِنَفْعِهِمْ مِمَّا يَرِثُهُ اللهُ يومَ القيامَةِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى: أَنَّه ـ سُبْحانَهُ، يفني الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا منَ المَخْلوقاتِ وَيَبْقَى وَحْدَهُ، كَمَا يَبْقَى الوارِثُ بَعْدَ مَوْتِ المَوَرِّثِ. ويَجوزُ أَيْضًا أَنْ يَكونَ المَعْنَى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْها، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ غَيْرِنَا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهَا وعلى مَنْ عَلَيْها مُلْكٌ وَلَا تَصَرُّفٌ. وَهو تَذْيِيلٌ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ الكريمِ فِي تَذْيِيلِ الْأَغْرَاضِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى آخَرَ.
وَالْإِرْثُ: يَعْنِي صَيْرورَةَ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى مَنْ يَبْقَى بَعْدَهُ مِنْ أَوْلَادِهِ وأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي تَمَحُّضِ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ مُشَارِكٍ. إِذْ الْأَرْضُ اليومَ فِي تَصَرُّفِ سُكَّانِهَا مِنَ المخلوقاتِ مِنْ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ، كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ، بحسَبِ تقديرِ اللهِ تَعَالَى وتسْخيرِهِ، فَإِذَا قامتِ القيامةُ وَهَلَكَ الإنسانُ وَالْحَيَوَانُ صَارَ التَّصَرُّفُ فِيهَا لِخَالِقِهَا ـ جَلَّ جَلالُهُ العَظِيمُ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ مُشْتَرَكًا بِمِقْدَارِ مَا خَوَّلَهُمُ اللهُ، فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي مَحْضِ تَصَرُّفِ اللهِ. والْمُشْرِكِونَ يُنْكِرُونَ الحَيَاةَ الآخِرَةَ والحسابَ والْجَزَاءَ فيها، وبِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللهَ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ أُكِّدَتِ هذِهِ الجُمْلَةُ بِحَرْفَيْ التَّوْكِيدِ "إِنَّا"، وَ "نَحْنُ" لِدَفْعِ إِنْكارِ ذَلِكَ وَالشَّكِّ فيهِ.
قولُهُ: {وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} أَيْ: يَرْجِعُونَ إِلَيْنَا لَا إِلَى غَيْرِنَا، بَعْدَ أَنْ يُبْعُثونَ، فَنُجازيهمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِم. فَلَا يُحْزِنْكَ أَيُّها الرَّسُولُ تَكذيبُ المُشْرِكِينَ لَكَ فِيما أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ الحَقِّ، فَإِنَّ إِلَيْنا مَرْجِعَهمْ، وَنَحْنُ الوَارِثونَ للأْرضِ ومَنْ عَلَيْها، والكلُّ عائِدٌ إِلَيْنَا عَوْدَةَ المِيراثِ إِلَى الوَارِثِ الوَحيدِ، فنُجازي المُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، والمُسيءَ بِإِساءَتِهِ، وَلَا ظُلْمَ لأَحدٍ في ذَلِكَ اليَوْمِ. وَتَقْدِيمُ الجَارِّ وَالْمَجْرُورِ هُنَا إنَّما هوَ لِيُفِيدَ الْقَصْرَ.
قولُهُ تَعالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها} إِنَّا: "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، و "نا" ضميرُ المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُ "إنَّ". و "نَحْنُ" ضميرٌ مُنْفصلٌ مُؤَكِّدٌ لِاسْمِ "إِنَّ" الذي هُوَ بِمَعْنَى "نَحْنُ". وَ "نَرِثُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "الْأَرْضَ" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ. و "وَمَنْ" الواوُ: عاطفةٌ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ بالمفعولِيَّةِ عَطْفًا عَلى "الأَرْضَ". و "عَلَيْهَا" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِمحذوفِ صِلَةِ المَوْصُولِ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ خَبَرُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ. وَجُمْلَةُ "إنَّ" مِنِ اسْمِها وخَبَرِها مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} الوَاوُ: حاليَّةٌ، وَ "إِلَيْنَا" إِلى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُرْجَعُونَ"، و "نا" ضَمِيرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، متَصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "يُرْجَعُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامةُ رَفْعِهِ ثُبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبًا عَنْ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، أَوْ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "نَرِثُ".
قَرَأَ العامَّةُ: {يُرْجَعون} بِالياءِ مِنْ تَحْتِ مَبْنِيًّا للمَجهولِ. وقَرَأَ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ، وابْنُ أَبي إِسْحاقَ، وَعِيسَى "يَرْجِعُونَ" مَبْنِيًا للمعلومِ، وقَرَأَ الأَعْرَجُ "تُرْجَعونَ" بالتاءِ مِنْ فَوْقُ بالبِناءِ للمجهولِ عَلَى الخِطابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الْتِفاتًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ.