فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا سِتْرًا يَسْتُرُهَا عَنْ أَعْيُنِهِمْ وَعَنِ النَّاسِ، فقيلَ اتَّخَذَتِ الجَبَلَ وقيل غيرُ ذلكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ جميعًا، قَالَا: خَرَجَتْ مَرْيَمُ إِلَى جَانبِ الْمِحْرَابِ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذْ هِيَ بِرَجُلٍ مَعَهَا، "فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سويًّا" فَفَزِعَتْ وَقَالَتْ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنَ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} .. إلخ.
قوْلُهُ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهَا جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فقِيلَ: تَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ شَابٍّ تِرْبٍ لَهَا، مِنْ خَدَمِ بَيْتِ المَقْدِسِ اسْمُهُ يُوسُفَ، وَإِنَّما تَمَثَّلَ لَهَا في تِلْكَ الصُّورَةِ الجَمِيلَةِ فَتَأْنَسَ بِهِ، وَتَتَلَقَّى مِنْهُ مَا يُلْقي إِلَيْهَا مِنْ كَلامِ اللهِ تَعَالى، وَلَوْ ظَهَرَ لَهَا عَلى صُورَةِ المَلَكِ، لَخافَتْ وَنَفَرَتْ مِنْهُ، وقدْ أَفْحَشَ مَنْ قال: إِنَّهُ ظَهَرَ لها في صورةِ ذلكَ الشابِّ لِتَهيجَ شَهْوَتُها، فَتَنْحَدِرَ بُوَيضَتُهَا إِلَى رَحِمَهَا، يُكَذِّبُهُ قَوْلُهُ تَعَالى بعدَ ذلكَ: {قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}، فإِنَّهُ شَاهِدٌ على أَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهَا شيْءٌ منْ ذَلِكَ البَتَّةَ. كما فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ عِصْمَتِهَا، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي صُورَتِهِ مَا يُكْرَهُ لِأَمْثَالِهَا، لِأَنَّهَا حَسِبَتْ أَنَّهُ بَشَرٌ اخْتَبَأَ لَهَا لِيُرَاوِدَهَا عنْ نفسِها فاسْتَعاذَتْ بالرَّحْمَنِ مِنَهِ. وَصِفَةُ "الرَّحْمَنِ" دُونَ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالى رَجاءَ أَنْ يَرْحَمَهَا اللهُ بِدَفْعِ مَنْ حَسِبَتْهُ دَاعِرًا يُريدَ بها السُّوءَ. وَالأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِـ "رُوحَنَا" جِبْرِيلُ، بِدَليلِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} الْآيَةَ: 102، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الشُّعراءِ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الْآيَةَ: 193، أَمَّا إِضَافَة "روح" إِلَى اللهِ تَعَالى فهيَ إِضَافَةُ تَكْرِيمٍ وتَشْرِيفٍ.
قولُهُ: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} فَجَاءَهَا مُتَمَثِّلًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ تَامِّ الخَلْقِ. ويدُلُّ قولُهُ "تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا" على أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ مَلَاكٌ وَلَيْسَ آدَمِيًّا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ مِنْ سورةِ آلِ عِمرانَ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ: 45، وَالَّذِي بَشَّرَهَا هناكَ هُوَ الَّذِي قَالَ لَهَا هُنَا: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} الآيةَ: 19، منْ هذِه السُّورةِ الكريمةِ.
قولُهُ تَعَالى: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "اتَّخَذَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ الساكنةُ لتأْنيثِ الفاعِلِ. وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هيَ) يَعُودُ عَلَى "مَرْيَمَ" ـ عليها السَّلامُ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بالمفعولِ الثاني، و "دُونِهِمْ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ علامةُ تذكيرٍ للجمع. و "حِجَابًا" مَفٍعُولُهُ الأولُ، والجُمْلَةُ: في مَحَلِّ الجَرِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "انْتَبَذَتْ"، على كونِها فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ "إِذْ" إليْها.
قولُهُ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الفاءُ: عاطِفَةٌ، و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَعْظيمِ هَذَهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "إِلَيْهَا" إلى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، وَ "ها" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجرِّ. و "رُوحَنَا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "اتَّخَذَتْ".
قولُهُ: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} الفاءُ: للعَطْفِ، و "تَمَثَّلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى الرُّوحِ. و "لَهَا" اللامُ: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَمَثَّلَ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ معْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "أَرْسَلْنَا". و "بَشَرًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "تَمَثَّلَ". و "سَوِيًّا" صِفَةٌ لِـ "بَشَرًا" مَنْصُوبةٌ مِثْلهُ .وَسَوَّغَ وُقوعَ الحالِ جامِدَةً وَصْفُهَا بِمَا بَعْدَها.
قرَأَ الجُمْهورُ: {رُوْحَنا} بِضَمِّ الراءِ، وُهوَ مَا يَحْيَوْنَ بِهِ. وَقَرَأَ أَبو حَيَوَةَ، وَسْهْلٌ: "رَوْحَنَا" بِفَتْحِها، أَيْ: مَا فِيهِ رَاحَةٌ للعِبَادِ، وهَذا كَقَولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الواقعة: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} الآيةَ: 89. وحَكَى النَّقاشُ أَنَّهُ قُرِئَ أيضًا: "رُوْحَنَّا" بِضمِّ الراءِ وتَشديدِ النُّونِ، وَقالَ: هُوَ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ المَلائكَةِ الكِرامِ.