أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تَعْجِيبٌ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ حِدَّةِ سَمْعِ وأَبْصَارٍ المُتَمَذْهِبينَ وسُوءِ حالِهم يَوْمَ القِيامَةِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الدُّنْيا صُمًّا عنِ الحقِّ عُمْيًا عنِ الحقيقةِ. قالَ تَعَالى منْ سُورةِ الكَهْفِ: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} الآية: 101. وقالَ منْ سورةِ السَّجْدَة: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} الآية: 12.
وَهُمْ أُولَئِكَ الذينَ تَحَزَّبِوا عَلَى الكُفْرِ وَالشِّركِ والضَّلالِ، مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وقدْ تَحَدَّثتْ عنْهُمُ الآياتُ السَّابِقةُ فعرَّتهم وبَيَّنَتْ زَيْغَهم عنِ الحقِّ؛ ولفظُ صيغَةِ التَعْجُّبِ هَذِهِ لَفْظُ الأَمْرِ، ومَعْناها الماضي، أَيْ: مَا أَسْمَعَهُمْ وما أَبْصَرَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ سَمْعٌ ولا بَصَرٌ.
وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ لِإِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الصِّيغَةِ، يُؤَيِّدُهُ دُخُولُ نُونِ التَّوْكِيدِ عَلَيْهِ، كَما في قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمُسْتَبْدِلٍ مِنْ بَعْدِ غَضْيَا صُرَيْمَةً ............ فَأَحْرِ بِهِ لِطُولِ فَقْرٍ وَأَحْرِيَا
لِأَنَّ أَلِفَ "أَحْرِيَا" مُبْدَلَةٌ مِنْ نُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ، كَمَا قَالَ الناظمُ في الْخُلَاصَةِ:
وَأَبْدِلْنَهَا بَعْدَ فَتْحٍ أَلِفًا .................... وَقْفَا كَمَا تَقُولُ فِي قِفَنْ قِفَا
وهو قوْلُ الجمهور بِخِلَافِ ما ذَهَبَ إِلَيْهِ بعضُ الْكُوفِيِّينَ مِنْ أَنَّهَا اسْمٌ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهَا فِي قَوْلِ الْعَرَجِيِّ إِذْ قالَ:
يَا مَا أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ............. مِنْ هَؤُلَيَّاءِ بَيْنَ الضَّالِ وَالسَّمُرِ
قَالُوا: وَلَا يَكُونُ التَّصْغِيرُ إِلَّا فِي الْأَسْمَاءِ، وَالجوابُ: أَنَّ التَصْغِيرَ فِي هذا الْبَيْتِ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وهَذا التأْويلُ هو مَضْمُونُ قولِ الحَسَنِ البَصْريِّ، وَقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
وَقيلَ هُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَتَهْديدٌ، أَيْ لَسَوْفَ يَسْمَعُونَ يومَئذٍ مَا يَخْلَعُ قُلوبَهم، وَيُبْصِرونَ مَا تَسْوَدُّ مِنْهُ وُجُوهُهُم. وهوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ.
وبِحَسَبِ هِذَيْنِ التأْويلَيْنِ يكونُ الجَارُّ والمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلَى الفاعِلِيَّةِ بِفِعْلِ التَّعَجُّبِ.
ورُويَ عَنْ أَبي العَالِيَةِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ حَقيقِيٍّ للرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنْ يُسْمِعَهُمْ وَعِيدَ ذَلِكَ اليَوْمِ ويُبْصِّرَهم بِمَا يَحيقُ بِهِمْ فِيهِ.
وثمَّةَ احْتِمالٌ رابعٌ في تأْوِيلِ هَذِهِ الجُملةِ وَهُوَ: أَسْمِعْ يا رَسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أُمَّتَكَ بِمَا أَخْبَرْنَاكَ عَنْ حَالِهِمْ فَسَتسمعونَ وتُبْصِرونَ غَدًا مَا يُصْنَعُ بِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَعَلَى هذيْنِ التَأْويلينِ، فَالجارُّ والمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِأَنَّ "أَسْمِعْ" و "أَبصِرْ" فعلُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ على حَضْرَةِ النبيِّ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ.
قولُهُ: {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أَيْ: يَوْمَ يَرْجعُونَ إِلَيْنا، فسَيَرَوْنَ مَا نَصْنَعَ بِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ الحِسَابِ والجَزاءِ، يَوْمَ يَقُومُونَ للهِ ربِّ العالَمِينَ، وَيُحاسِبُهم، فَيَجْزِي المُحْسِنَ بإحْسانِهِ، والمُسِيءَ بما أَسَاءَ.
قولُهُ: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} لكنَّ الظالمينَ فِي الدُّنْيا، فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ فَلَا يُدْرِكونَ عاقبةَ إِغْلاقِهِمْ أَسماعَهُم عنْ سَمَاعِ الصِّدْقِ، وَأَبْصارَهم عنْ رُؤْيَةِ الحَقِّ.
قولُهُ تَعَالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أَسْمِعْ: فِعْلُ تَعَجُّبٍ لَفْظُهُ لَفْظُ الأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ المُضِيُّ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ نَظَرًا للفْظِ، أَوْ بِفَتْحٍ مُقَدَّرٍ عَلَى الآخِرِ السَّاكِنِ نَظَرًا لِمَجيئِهِ عَلَى صُورَةِ الأَمْرِ. "بِهِمْ" الباءُ: زَائدَةٌ زِيدَتْ وُجُوبًا لِرَفْعِ قُبْحِ رَفْعِ مَا لَفْظُهُ أَمْرٌ للضَّميرِ البارِزِ، والهاءُ: ضَميرُ الغائبِينَ مَحَلُّهُ القَريبُ الجَرُّ بالباءِ الزائدَةِ، وَمَحَلُّهُ البَعيدُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ فاعِلُ أَسْمِعْ، لِأَنَّ "أَفْعِلْ" أَمْرٌ لِا يَكونُ فاعِلُهُ إِلَّا ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِه ِالباءِ إِلَّا مَعَ "أَنْ" و "أَنَّ" كَقَوْلِ الشاعِرِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
كأَنَّ قُرونَ الشَّمْسِ عِنْدَ ارْتِفاعِهَا .... وَقَدْ صَادَفَتْ قَرْنًا مِنَ النَّجْمِ أَعْزَلا
تَرَدَّدَ فيعا ضَوْءَها وشُعاعُها ........... فَاَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامرِئٍ أن تَسَرْبَلا
أَيْ: بِأَنْ تَسَرْبَلَ، فَالمَجْرُورُ مَرْفوعُ المَحَلِّ، وَلَا ضَمِيرِ في أَفْعَلِ. وثمَّةَ قوْلُ ثانٍ: وهوَ أَنَّ الفاعِلَ مُضْمَرٌ، والمُرَادُ بِهِ المُتَكَلِّمُ كَأَنَّ المُتَكَلِّمَ يَأْمُرُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، والمَجْرُورُ بَعْدَهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَيُعْزَى هَذَا القولُ لأبي إسحاقٍ الزَّجَّاجِ. وَقَوْلٌ: بِأَنَّ الفاعِلَ ضَميرُ المَصْدَرِ، وَالمَجْرُورَ مَنْصُوبُ المَحَلِّ أَيْضًا، والتَقْديرُ: أَحْسِنْ يَا حسنُ بِزَيْدٍ. وَلِشَبَهِ هَذِا الفاعِلِ عِنْدَ الجُمْهورِ بِالفَضْلَةِ لَفْظًا، جازَ حَذْفُهُ للدَّلالَةِ عَلَيْهِ، كما في هَذِهِ الآيَةِ، فإِنَّ تَقْديرَهُ: وَأَبْصِرْ بِهِمْ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ: جُمْلَةٌ تَعَجُّبِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "أَبْصِرْ" مَعْطُوفٌ عَلَى "أَسْمِعْ" وَلَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. وَ "يَوْمَ" مَنْصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْمِعْ" أَوْ بِـ "أَبْصِرْ" عَلى سَبيلِ التَنَازُعِ، وقدْ جَوَّزَ بَعْضُهمْ هذا، وهوَ خِلافُ قَاعِدَةِ الإِعْمَالِ. والأصَّحُ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لـ "أَبْصِرْ" وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَعْمُولًا لـ "أَسْمِعْ" لأَنَّهُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ فِعْلِ التَّعَجُّبِ وَمَعْمُولِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكونَ المَسْأَلَةُ مِنَ التَنَازُعِ. وَقِيلَ بَلْ هوَ فعلُ أَمْرٍ حَقيقَةً، وَالمَأْمُورُ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالمَعْنَى: أَسْمِعِ النَّاسَ وأَبْصِرْهُمْ بِهِمْ وَبِحَديثِهم: مَاذا يُصْنَعُ بِهِمْ غدًا مِنَ العَذَابِ؟ وقد تقدَّمَ لنا تَفْصيلُ ذَلِكَ في مَبْحَثِ التفسيرِ. و "يَوْمَ" مَنْصُوبٌ بِما تَضَمَنَّهُ الجَارُّ مِنْ قَوْلِهِ "فِي ضَلالٍ مُبِينٍ"، أَيْ: لَكِنِ الظَّالِمُونَ اسْتَقَرُّوا فِي ضَلالٍ مُبينِ اليَوْمَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ هَذَا الظَّرْفُ هُوَ الخَبَرَ، وَالجَارُّ لَغْوٌ؛ لِئَلَّا يُخْبَرَ عَنِ الجُثَّةِ بِالزَّمَانِ، بِخِلافِ قَوْلِكَ: القِتَالُ اليَوْمَ فِي ساحةِ المَعْرَكَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الاعْتِبارانِ. وَهوَ مُضافٌ. وَ "يَأْتُونَنَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواو: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَ "نَا" ضَميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهِ ـ سُبْحانَهَ، مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. وَجُمْلَةُ "يأْتونَنَا" الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرّ مُضَافٌ إِلَيْهِ لِـ "يَوْمَ".
قولُهُ: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} لَكِنِ: حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ. و "الظَّالِمُونَ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ. وَ "الْيَوْمَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بخَبَرِ المُبْتَدَأِ. و "ضَلَالٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "مُبِينٍ" صِفَةٌ لـ "ضَلَالٍ" مجرورةٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الاسْتِدْراكِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.