ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَرِدَ جَمِيعُ مِنْ في المَحْشَرِ جَهَنَّمَ، ويُشْرِفونَ عَلَيْهَا، ويَرَوْنَ ما يَنْتَظِرُ أَهْلَها مِنْ أَلوانِ العذابِ، وَتَكَادُ تَنْقَطِعُ نِيَاطُ قلوبهِمْ مِنْ شِدَّةِ الخوفِ، يَمُنُّ عَلَيْهِمْ ربُّهُمْ بالنَّجَاةِ مِنْهَا، والابتعادِ عَنْها، بِفَضْلِ مَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الإيمانِ بهِ، وتَصْديقِ رُسُلِهِ واتِّباعِهمْ فِي الحَيَاةِ الدُنْيَا، لِأَنَّ إِيمانَهمْ هَذا، وَمَا وَفَّقَهُمُ اللهُ إِليْهِ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ، قَدْ وَقَّاهُمْ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفَ حاجزًا بَيْنَهُمْ وبَيْنَ جَهَنَّمَ، فَحَالَ بَيْنَ عَذَابِها وبَيْنَهم، وهذا بحسَبِ القَوْلِ الأَوَّلِ الذي عليْهِ أَكْثَرُ المُفَسِّرينَ، وأَمَّا عَلَى القَوْلِ الثاني فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ نَجَوْا مِنَ الْوُرُودِ إِلَى النَّارِ. وقدْ تَقَدَّمَ بيانُهُ مفصَّلًا في تَفْسِيرِ الآيةِ الَّتي سَبَقَتْ هَذِهِ الآيةَ، وَذِكْرُ إِنْجَاءِ الْمُتَّقِينَ: أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، إِدْمَاجٌ بِبِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ جَعَلَنَا اللهُ مِنْهُمْ، وَنَجَّانَا مَعَهُمْ، فِي أَثْنَاءِ وَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ، والحَمْدُ للهِ رَبَّ العالَمِينَ.
قولُهُ: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} وَنَذَرُ: أَيْ: ونَتْرُكُ، وَهُوَ فعلٌ مُضَارِعٌ لَيْسَ لَهُ مَاضٍ مِنْ لَفْظِهِ، فَإنَّ الْعَرَبَ قد أَمَاتَوا مَاضِيَهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَاضِي "يَتْرُكُ"، وَ "الَّذِينِ ظَلَمُوا" إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالْأَصْلُ أَنْ يُقالَ: وَنَذَرُكُمْ أَيُّهَا الظَّالِمُونَ. و "جِثِيًا" تقدَّمَ شَرْحُ مَعْنَاهَا غيرَ بَعيدٍ لدى تفسيرِنا للآيةِ: 68، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ. وهذِهِ الجملةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، وَزِيَادَةُ ارْتِقَاءٍ فِي وَعِيدِ المُشْركينَ، وتَهْديدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ هُمُ البَاقونَ فِي جهَنَّمَ، فالمرادُ بالظَّالِمينَ هُنَا همُ المُشْركونَ فَهُمُ الخَالِدُونَ فِي الْعَذَابِ المُهِينِ، إذْ لَيْسَ وُرُودُهُمُ النَّارَ بِمُوَقَّتٍ بِأَجْلٍ يَنْتَهي بانْقِضائهِ، بَيْنَمَا ينَجِي اللهُ تَعالى مِنْهَا عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بعدَ أَنْ كانوا لَهَا مِنْ جُملةِ الواردينَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا، وَتَقَدَّمَ أَيضًا أَنَّ "جِثِيًّا" وَصْفٌ للحالةِ التي يَكونُونَ عَلَيْهَا في انتظارِ دخولِ نارِ جَهَنَّم، وفي ذَلِكَ زِيادةٌ فِي إِهانَتِهِمْ وَتَحْقيرِ شأْنِهِم وإِذْلالِهم.
قوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرْتيبٍ وَ تَرَاخٍ. و "نُنَجِّي" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِ ظهورِها على الياءِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) للتَّعْظيمِ يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ النَّصْب على المَفْعُوليَّةِ، وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةُ قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} الآية: 69 السابقةِ على كونِها معطوفةً على جملةٍ واقعةٍ جوابًا للقَسَمِ ليس لها محلٌّ مِنَ الإعرابِ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. و "اتَّقَوْا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ للعِلْمِ بِهِ، والتقديرُ: الذينَ اتَّقُوا الشِّرْكَ وَالظُّلْمَ. وَالجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "نَذَرُ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) للتَّعظيمِ يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. وَ "الظَّالِمِينَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ "نُنَجِّي" على كونِها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَذَرُ" أَوْ بِـ "جِثِيًّا" إِنْ أُعْرِبَ حالًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِهِ إنْ أُعْرِبَ مَصْدَرًا، وَيَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ "جِثِيًّا" لِأَنَّهُ فِي الأَصْلِ صِفَةٌ لِنَكِرَةٍ قُدِّمَ عَلَيْهَا فَنُصِبَ على الحالِ منها. و "جِثِيًّا" منصوبٌ عَلَى الحَالِ مِنَ "الظَّالِمِينَ" إِنْ جُعِلَتْ "نَذَرُ" بِمَعْنَى "نُخَلِّيْهِمْ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ "نَذَرُ"؛ أَيْ: نَتْرُكُهُمْ فِيهَا "جِثِيًّا"، وهَذا إنْ كان "نَذَرُ" بَمَعْنَى "نَتْرُكُ" أَوْ "نُصَيِّر" فيَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ.
قَرَأَ العَّامَّةُ: {ثُمَّ نُنَجِّيْ} بِضَمِّ الثاءِ مِنْ "ثُمَّ" عَلَى أَنَّها حرفُ عَطْفٍ. وَقَرَأَ أَميرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وأُبَيُّ ابْنُ كَعْبٍ، والجَحْدَرِيُّ، ويَعْقوبُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم: "ثَمَّ" بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّها الظَّرْفِيَّةُ، وَيَكونُ نَصْبُهُ بِمَا بَعْدَهُ، والمَعْنَى: هُنَاكَ نُنَجِّي الذينَ اتَّقَوا.
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {نُنَجِّيْ} بِضَمِّ النُّونِ الأُولى، وَفَتْحِ الثانِيَةِ، وتَشْديدِ الجِيمِ، مِنْ "نَجَّى" مُضَعَّفًا. وَقَرَأَ الكِسائيُّ وَالأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ "نُنْجِي" مِنْ أَنْجَى. وَالفِعْلُ عَلى هاتَيْنِ مُضَارِعٌ.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: "نُجِّيْ" بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ وجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وياءٍ ساكنةٍ، عَلى أَنَّهُ فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، وَكانَ مِنْ حَقِّها فَتْحُ اليَاءَ، وَلَكنَّها سُكِّنَتْ للتَخْفيفِ. وَقَرَأَ أَميرُ المؤمنينَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُ وكَرَّمَ وَجْهَهُ "نُنَحِّي" بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، مِنَ التَّنْحِيَة.