فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
(24)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا أَلَّا تَحْزَنِي} الْمَعْنِيُّ بِالْمَوْصُولِ هنا هُوَ الْغُلَامُ الَّذِي تَحْتَهَا، وهوَ سيِّدُنا عيسَى. وَهَذَا إِرْهَاصٌ لِهُ وَكَرَامَةٌ لِأُمِّهِ ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَيْدُ مَنْ تَحْتَها لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّهُ نَادَاهَا عِنْدَ وَضْعِهِ، قَبْلَ أَنْ تَرْفَعَهُ، مُبَادَرَةً مِنْهُ لِلتَّسْلِيَةِ وَالْبِشَارَةِ، وَتَصْوِيرًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ الاتِّصَالُ التَّامُّ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَأُمِّهِ.
قولُهُ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} فَإِنَّ حَالَتَكَ جَدِيرَةٌ بِالْمَسَرَّةِ لا الْحُزْنِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْكَرَامَةِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَالسَّرِيُّ: الْجَدْوَلُ مِنَ الْمَاءِ الكَثِيرِ الْجَارِي، كَالسَّاقِيَةِ، أَوِ النَّهْرُ الصَّغيرُ. وَيُنَاسِبُ هَذَا التَفْسيرَ قولُهُ تَعَالَى بعدَها: {فَكُلي وَاشْرَبي} وهو مَشْتَقٌّ مِنْ "سَرَى"، "يَسْرِي"، لِأَنَّ الماءَ يَسْري فِيهِ، وَعَلى هَذَا فَلامُهُ يَاءٌ، وأُنْشِدَ عليْهِ قولُ لَبيدِ بْنِ ربيعَةَ:
فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ، فَصَدَّعَا ............... مَسْجورةً مُتَجاوِزًا قُلاَّمُها
وَقالَ الرَّاغِبُ الأَصْفهانيُّ: السَّرِيُّ: مِنْ سَرَوْتُ الثَّوْبَ، أَيْ: نَزَعْتُهُ، وَسَرَوْتُ الجُلَّ عَنِ الفَرَسِ، أَيْ: نَزَعْتُهُ. كَأَنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثَوْبَهُ، بِخِلافِ المُدَّثِّرِ بثوبِهِ وَالمُتَزَمِّلِ بِهِ.
وَقِيلَ: هوَ الرَّجُلُ الرَّفيعُ القَدْرِ، مِنْ "سَرُوَ"، "يَسْرُوَ" كَ "شَرُفَ"، "يَشْرُفَ"، فهوَ سَرِيٌّ. وَأَصْلُهُ سَرِيْوٌ، فَأُعِلَّ إِعْلالَ "سَيِّدٍ"، فَلامُهُ أَصْلُها واوٌ. والمُرادُ بالسرِيِّ هوَ سيِّدُنا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَيُجْمَعُ عَلَى "سَراة" بِفَتْحِ السِّينِ، وَ "سُرَواء" ك "ظُرَفاء"، وَهُما شَاذَّانِ، بَلْ قِياسُ جَمْعِهِ "أَسْرِياء"، كَ "غَنِيِّ" و "أَغْنِياء".
قولُهُ تَعَالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} الفاءُ: عاطِفَةٌ. وَ "نَادَاهَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظُهورِهِ عَلى الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُود عَلى المَلَكِ، أَوْ عَلَى عِيسَى ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَ "هَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَادَاهَا"؛ و "تَحْتِها" ظَرْفُ مَكانٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِالإضافَةِ إِلَيْهِ. أَيْ: فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكانِهَا، أَوْ يِتَعَلَّقُ الجارُّ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ فاعِلِ "نَادَاهَا"؛ أَيْ: ناداهَا وَهُوَ تَحْتَهَا. وهذا الضَّميرُ إِمَّا لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلامُ، وَإِمَّا للنَّخْلَةِ، وَالأَوَّلُ أَوْلَى لِتَوَافُقِ الضَّمِيرَيْنِ. وَالجُمْلَةُ الفِعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {قَالَتْ} منَ الآيةِ التي قبلَها عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "أَلَّا" أَنْ: مُفْسِّرَةٌ لأنَّ فيِ النِّداءِ مَعْنَى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، مَحَلُّها الجَرُّ أَوِ النَّصْبُ بِنَزْعِ الخافضِ، أَيْ: فَنَاداهَا بِأَنْ لا تَخافي. وَ "لا" ناهِيَةٌ جازمةٌ. و "تَحْزَنِي" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا"، وعلامةُ جَزْمِهِ حذٍفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، والياءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِجملةِ "ناداها" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "أَنْ" مَصْدَرِيَّةً، وَ "لا" نافيَةً، و "تَحْزَني" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنصوبٌ بِهَا، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النونِ منِ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، والياءُ: فاعلُهُ ـ كما تقدَّمَ. و "أَنْ" المَصْدَرِيَّةُ ومَا بَعْدَها: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالباءِ المُقَدَّرَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالنِّداءِ؛ والتقديرُ: وَناداها بِعَدَمِ الحُزْنِ، وَالإعرابُ الأَوَّلُ أَسْهَلُ وَأَوْضَحُ.
قولُهُ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قَدْ: للتَحْقِيقِ. وَ "جَعَلَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَ "رَبُّكِ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، مُضافٌ، والكافُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ. و "تَحْتَكِ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظرفيَّةِ المَكانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ هوَ المَفْعُولُ الثاني لِـ "جَعَلَ"، مُضافٌ، والكافُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِليْهِ. وَ "سَرِيًّا" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَ "تَحْتَكَ" مَفْعُولُهُ الثاني لأَنَّ "جَعَلَ" بِمَعْنَى "صَيَّرَ". ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى "خَلَقَ"، فيِكْتفي بمفعولٍ واحِدٍ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ ـ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بْنُ العَلاءِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ: {مَنْ تَحْتَها} بِفَتْحِ المِيمِ وَنَصْبِ "تَحْتَها" عَلَى أَنَّهَا اسْمُ مَوْصُولٍ، وَفَتَحَ تَحْتَهَا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ جُعِلَ صِلَةً. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَحَّاسُ، وَخَلَفٌ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ "مِنْ تَحْتِها" بِكَسْرِ الميمِ، وَجَرِّ التاءِ الثانيَةِ مِنْ "تْحْتِها" عَلَى أَنَّهُما جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، و "مِنْ" للابتِداءِ. فَإِنَّ "مَنْ" في القِراءَةِ الأُولَى مَوْصُولَةٌ، والظَّرْفُ صِلَتُها، وَالمُرادُ بالمَوْصُولِ: "جِبْريلُ"، أَوْ "عيسى" ـ عليهِما السَّلامُ. أَمَّا القراءةُ الثانيةُ فتَقْتَضي أَنْ يَكونَ الفاعِلُ في "نَادَى" مُضْمَرًا، وَيَحْتَمِلُ تَأْويلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: هُوَ جِبْريلُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ "مِنْ تَحْتِهَا" أَنَّهُ فِي مَكانٍ أَسْفَلَ مِنْها. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِراءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: "فَناداها مَلَكٌ مِنْ تَحْتِهَا: فَصَرَّحَ بِهِ. وَعَلَيْهِ فإنَّ في "مِنْ تَحْتِهَا" وَجْهانِ، أَحَدُهُما: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالنِّداءِ، أَيْ: جَاءَ النِّداءُ مِنْ هَذِهِ الجِهَةِ. والآخَرُ: أَنَّهُ حالٌ مِنَ الفاعِلِ، أَيْ: فَنَاداها وَهُوَ تَحْتَها.
وثانيهما: أَنَّ الضَّميرَ راجِعٌ لِسيِّدِنا عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَيْ: فَناداها المَوْلودُ مِنْ تَحْتِ ذَيْلِهَا. وَفي الجارِّ الوَجْهانَ: مِنْ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقا بالنِّداءِ، أَوْ بِمَحْذوفٍ عَلى أَنَّهُ حالٌ. وهُوَ أَوْضَحُ.