كهيعص (1)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {كهيعص} اخْتَلَفَ العلماءُ فِي معاني هذهِ الحُروفِ الَّتي في أَوائلِ السُّوَرِ ـ كَمَا تقدَّمَ بيانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، عَلَى قَوْلَيْنِ، فمِنْهم مِنْ قالَ: هُوَ سِرُّ اللهِ في القُرْآنِ أَلَّا نَخوضَ فيها وأَلَّا نَتَعَرَّضَ لها، نُؤْمِنُ بظاهرِهِ، وَنَدَعُ باطِنَهُ. أَمَّا الجُمْهورُ فإنَّهم قالوا: يَنْبَغي أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيها، ونَطْلُبَ مَعَانيها، فإِنَّ العَرَبَ قَدْ تَأْتِي بِالحَرْفِ الوَاحِدِ للدَّلالةِ عَلَى كَلِمَةٍ، وَلَا يُوجَدُ في كِتابِ اللهِ مِنَ الأَسْرارِ مَا يَسْتَعْصِي على الفَهْمِ، ثُمَّ اخْتَلَفوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَقْوالٍ ذَكَرْنا أَهمَّها فِي تَفْسيرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ونَذْكُرُ هنا ما يَخُصُّ هَذِهِ السُّورَةَ المُبَارَكَةَ. فقد روِيَ عَنِ عبدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وسعيدِ ابْنِ جُبَيْرٍ، والضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَنَّ كلَّ حرفٍ مِنْ هَذِهِ الحُروفِ دَالٌّ عَلى اسْمٍ مِنْ أَسْماءِ اللهِ تَعَالى، فَالكافُ مِنِ اسْمِهِ "الكَبِيرِ" أَوْ مِنِ اسْمِهِ "الكافي" كَمَا قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ مِنِ اسْمِهِ "الكريمِ" فَمُقْتَضَى أَقْوَالِهِ أَنَّها دَالَّةٌ عَلَى كُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمائِهِ تَعَالَى فيهِ كافٌ. وَالهاءُ مِنِ اسْمِهِ "الهادي"، والياءُ مِنِ اسمِهِ "العَلِيِّ"، أَوْ مِنِ اسْمِهِ "الحَكيم". وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، هِيَ مِنْ "يا مَنْ" يُجيرُ وَلَا يُجارُ عَلَيْهِ. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالعَيْنُ مِنْ "العَزيزٍ"، أو مِنَ "العَليم" أَوْ مِنَ "العَدْلِ"، والصَّادُ مِنْ "الصَّادِقِ". وَقالَ قَتَادَةُ بَلْ "كهيعص" بِجُمْلَتِهِ اسْمُ السُّورَةِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ سيِّدِنا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كانَ يَقولُ يِا "كَهَيَعَصِ" أَعُوذُ بِكَ مِنَ الذُّنوبِ التي تُوجِبُ النِّقَمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الذُّنوبِ الَّتي تُغَيِّرُ النِّعَمَ، وأَعُوذُ بِكَ مِنَ الذُّنوبِ الَّتي تَهْتِكُ العِصَمَ، وأَعُوذُ بِكَ مِنَ الذُّنوبِ الَّتي تَحْبِسُ غَيْثَ السَّماءِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الذُّنوبِ الَّتي تُديلُ الأَعْداءَ، انْصُرْنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا). وكانَ يُقَدِّمُ هَذِهِ الكَلِماتِ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ شِدَّةٍ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ، قدْ تَوَسَّلَ بِالأَسْماءِ المُخْتَصَرَةِ مِنْ هَذِهِ الحُرُوفِ. إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ الجُمْلَةُ مِنْ أَسْماءِ اللهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُريدَ ـ كرَّمَ اللهُ وجْهَهُ، أَنْ يُناديَ اللهَ تَعَالى بِجَميعِ الأَسْماءِ الَّتي تَضَمَّنَها "كَهَيَعص"، كَأَنَّهُ أَرادَ القَوْلَ: يَا كَريمُ، يا هادي، يا عَلِيُّ، يا عَزيزُ، يَا صَادِقُ، اغْفِرْ لي، فَجَمَعَ هَذَا كُلَّهُ واخْتَصَرَه في: يا "كَهَيَعص".
وأَخْرَجَ الأئمَّةُ: الْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "كهيعص" قَالَ: كَبِيرٌ، هادٍ، أَمِينٌ، عَزِيزٌ، صَادِقٌ، وَفِي لَفْظٍ: كَافٍ بَدَلَ "كَبِيرٍ".
وَأَخْرَجَ الأئمَّةُ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وآدَمُ بْنُ أَبي إِيَاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي التَّوْحِيدِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنِ ابْنِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّهُ قَالَ في "كهيعص": كَافٌ: مِنْ كَريمٍ، وَهاءٌ: مِنْ هادٍ، وياءٌ: مِنْ حَكِيمٍ، وَعَيْنٌ: مِنْ عَلِيمٍ، وصادٌ: مِنْ صَادِقٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رُضْوانُ اللهِ عليهم أجمعينَ: "كهيعص" هُوَ الهِجَاءُ المُقَطَّعُ، الْكَافُ: مِنَ الْمَلِكِ، وَالْهَاءُ: مٍنَ اللهِ، وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ: مِنَ الْعَزِيزِ، وَالصَّادُ: مِنَ المُصَوِّرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ "كهيعص" فَحَدَّثَ عَنْ أَبي صَالِحٍ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((كَافٍ، هادٍ، عَالِمٌ، صَادِقٌ)).
وَأَخْرَجَ عُثْمَانُ بْنُ سَعيدٍ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَلِيٍّ قَالَتْ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي "كهيعص"، وَ {حَم}، وَ {يَس}، وَأَشْبَاهِ هَذَا هُوَ اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "كهيعص": قَسَمٌ أَقْسَمُ اللهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: "كهيعص" قَالَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَقُولُ: أَنَا الْكَبِيرُ، الْهَادِي، عَلَيٌّ، أَمِينٌ، صَادِقٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: "كهيعص" قَالَ: الْكَاف مِنَ الْمَلِكِ، وَالْهَاءُ: مِنَ اللهِ، وَالْعَيْنُ: مِنَ الْعَزِيزِ، وَالصَّادُ: مِنَ الصَّمَدِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْله: "كهيعص" قَالَ: الْكَافُ: مِفْتَاحُ اسْمِه الكَافِي، وَالْهَاءُ: مِفْتَاحُ اسْمِهِ الهادي، وَالْعَيْنُ: مِفْتَاحُ اسْمِهِ العَالِم، وَالصَّادُ: مِفْتَاحُ اسْمِهِ الصَادِقُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كهيعص" قَالَ: يَا مَنْ يُجيرُ وَلَا يُجَارَ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كهيعص" قَالَ: اسْمٌ مِنْ أَسمَاءِ الْقُرْآنِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونُ أُشِيرَ بِهَذِهِ الرُّموزِ إِلَى مُعامَلَتِهِ تَعَالَى مَعَ أَحِبَّائِهِ، فالكافُ كِفَايَتُهُ لَهُمْ، والهاءُ هِدايَتُهُ إِيَّاهُمْ إِلى طَريقِ الوُصُولِ إِلَى حَضْرَتِهِ، والياءُ يُمْنُهُ تَعَالَى وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهم وَعَلى مَنْ تَعَلَّقَ بِهِمْ، والعَيْنُ عِنَايَتُهُ بِهِمْ في سَابِقِ عِلْمِهِ، والصَّادُ صِدْقُهُ فِيمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الإنْعامِ وَالإِكْرامِ.
وقِيلَ: هِيَ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ أَسْماءِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ، أَيْ: يا كافِي، يا هادِي، يا مَيْمونُ، يا عَيْنَ العُيُونِ، أَنْتَ صَادِقٌ مُصَدَّقٌ.
وقِيلَ: الغايَةُ مِنْهَا تَعْريفٌ لِلْأَحْبابِ بِأَسْرارِ مَعَاني الخِطَابِ، حُروفٌ خَصَّ اللهُ بِهَا المُخَاطَبَ بِفَهْمِ مَعَانِيها، وإِذَا كانَ لِلْأَخْيَارِ سَمَاعُها وذِكْرُها، فلِلنَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ، فَهْمُها وَأَسْرارُها.
وقيلَ: أَشَارَ بالكافِ إِلَى أَنَّهُ الكافي فِي الإِنْعَامِ وَالانْتِقامِ، والرَّفْعِ والوَضْعِ، عَلى مَا سَبَقَ بِهِ القَضَاءُ والحُكْمُ.
وَقيلَ: في الكافِ تَعْريفٌ بِكَوْنِهِ مَعَ أَوْلِيائِهِ، وَفيهِ تَخْويفٌ بِخَفِيِّ مَكْرِهِ فِي بَلائِهِ.
وَقِيلَ: فِي الكافِ إِشارَةٌ إِلَى كِتابَتِهِ الرَّحْمَةَ عَلى نَفْسِهِ قَبْلَ كِتابَةِ المَلائِكَةِ الزَّلَّةَ عَلى عِبادِهِ. والهاءُ تُشيرُ إِلَى هِدَايَتِهِ المُؤْمِنينَ إِلَى عِرْفانِهِ، وَتَعْريفِ خَوَاصَّهِ باسْتِحْقاقِ جَلالِ سُلْطَانِهِ، وَمَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ حَقِّ بِحُكْمِ بُرِّهِ بِهِمْ وَإِحْسانِهِ إِلَيْهِمْ. وفي الياءِ إِشارَةٌ إِلَى يُسْرِ نِعَمِهِ بَعْدَ عُسْرِ ابْتِلائهِ وَمِحَنِهِ، وَإِلَى يَدِهِ المَبْسُوطَةِ للمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ بِالرَّحْمَةِ. وفي العَيْنِ إِشارةٌ إِلَى عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ عَبْدِهِ فِي سِرَّهِ وجَهْرِهِ، وَقُلِّهِ وكُثْرِهِ، وَحالِهِ وَمَآلِهِ، وَقَدْرِ طاقَتِهِ وَحَقِّ فَاقَتِهِ، وَالإشارةُ فِي الصَّادِ إِلَى أَنَّهُ الصَّادِقُ فِي وَعْدِهِ.
وَقالَ بَعْضُهُم: "كَهَيَعص" عِبَارَةٌ عَنْ حُروفِ المُعْجَمِ، ونَسَبَهُ أَبو اِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ إِلَى أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَيْ: هَذِهِ الحُرُوفُ مِنْهَا: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}.
وَقَدْ أَجْمَلَ المَاوَرْدِيُّ الأَقاويلَ في تَفْسيرِ هَذِهِ الحُروفِ في تَفْسيرِهِ (النُّكَتُ والعُيُونُ): (3/352 ــ 354) فقالَ: "كهيعص" فِيهِ سِتَّةُ أَقَاويلَ:
أَحَدُها: أَنَّهُ اسْمٌ مِنَ أَسْمَاءِ القُرْآنِ. قَالَهُ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
الثاني: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْماءِ اللهِ. قَالَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ.
الثالثُ: أَنَّهُ اسْتِفْتاحُ السُّورَةِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ـ رضِيَ للهُ عنْهُ.
الرابعُ: أَنَّهُ اسْمُ السُّورَةِ، قالَهُ الحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
الخامِسُ: أَنَّهُ مِنْ حُروفِ الجُمَّلِ تَفْسيرُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، لأَنَّ الكافَ: عِشْرونَ، والهاءَ: خَمْسَةٌ، والياءَ: عَشرْةٌ، والعَينَ: سَبْعونَ، والصَّادَ: تِسْعونَ. وكَذَلِكَ عَدَدُ حُروفِ لَا إِلَهُ إِلَّا اللهُ، حَكَاهُ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
السادسُ: أَنَّهَا حُروفُ أَسْماءِ اللهِ. فَأَمَّا الكافُ فَقَدِ اخْتَلَفوا فِيها مِنْ أَيِّ اسْمٍ هِيَ عَلَى ثَلاثةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُها: أَنَّها مِنْ كَبيرٍ، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما.
ثانيها: أَنَّهَا مِنْ كافٍ، قَالَهُ الضَّحَاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
الثالث: أَنَّهَا مِنْ كَريمٍ، قَالَهُ سعيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وأَمَّا الهاءُ فإِنَّهَا مِنْ هَادٍ عَنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَأَمَّا الياءُ فَفِيهَا أقاويلُ أَرْبَعَةٌ:
أحَدُهُا: أَنَّهَا مِنْ "يَمُنَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما.
الثاني: مِنْ حَكيمٍ قَالَهُ ابْنُ سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
الثالث: أَنَّها مِنْ يَاسِينَ. حَكَاهُ سالِمٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
الرابع: أَنَّها مِنْ يَاءِ النِّداءِ، وَعَلى هَذَا فَفِيهِ وَجْهانِ: أَحَدُهُما: يا مَنْ يُجيبُ مَنْ دَعَاهُ، وَلَا يَخيبُ مَنْ رَجاهُ، وذلكَ لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنْ دُعاءِ نبيِّ اللهِ زَكَريا ـ عليْهِ السَّلامُ. والثاني: يا مَنْ يُجِيرُ وَلَا يُجارُ عَلَيْهِ، قالَهُ الرَّبيعُ بْنُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما.
وأَمَّا العَيْنُ فَفِيها ثَلاثةُ أَقاويلَ: أَحَدُهَا: أَنَّها مِنْ "عَزيزٍ"، قالَهُ سعيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. الثاني: أَنَّهَا مِنْ "عَالِمٍ"، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. الثالثُ: مِنْ "عَدْلٍ، قالَهُ الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وأَمَّا الصَّادُ فإِنَّها مِنْ "صَادِقٍ فِي قَوْلِ جَمْيعِهِمْ، فهَذا بَيَانٌ للقَوْلِ السَّادِسِ. وَيُحْتَمَلُ سابِعًا: أَنَّها حُرُوفٌ مِنْ كَلامٍ أُغْمِضَتْ مَعَانِيهِ، وَنُبِّهَ عَلى مُرادِهِ فِيهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ: كَفَى وهَدَى مَنْ لَا يَعْصي فَتَكونُ الكافُ: مِنْ "كَفَى"، والهاءُ: مِنْ "هَدَى"، والباقي حُرُوفُ "يَعْصَى"، لأَنَّ تَرْكَ المَعَاصِي يَبْعَثُ عَلى امْتِثالِ الأَوَامِرِ، وَاجْتِنابِ النَّواهِي، فَصَارَ تَرْكُها كافِيًا مِنَ العِقابِ، وَهَاديًا إِلَى الثَّوَابِ، وَهَذَا أَوْجَزُ، وَأَعْجَزُ مِنْ كُلِّ كَلامٍ مُوجَزٍ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ فِي حُروفِ كَلِمَةٍ مَعَانِيَ كَلامٍ مَبْسُوطٍ، وَتَعْليلَ أَحْكامٍ وشَرُوطٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {كَيَهَعَصَ} أَصَحُّ الأَقْوالِ فيها وَأَسْهَلُها وَأَبْعَدُها عَنِ التَأْويلِ، أنَّها حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَيُحْتَمَلُ فيها الرَّفْعُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بَكونِها مُبْتَدَأٌ خبرُهُ ما بعدَهُ، وَإِمَّا بِكوْنِهَا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مقدَّرٍ. كما يُحْتَمَلُ فيها النَّصْبُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ لائقٍ، والتَقديرُ: اقْرَؤوا: "كَيَهَعَصَ"، وَإِمَّا بِإِسْقَاطِ حَرْفِ القَسَمِ فيكونُ كقَوْلِهم:
إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ ........................ فذاك أمانةَ اللهِ الثريدُ
يريد: وأَمَانَةِ اللهِ، والبيتُ مِنْ صُنْعِ النَّحْويينَ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الحُرُوفُ، فالتقديرُ: أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا. وَقَدْ رَدَّ بعضُهُمْ هَذَا الوَجْهَ بِأَنَّهُ يُوجدُ في القُرآنِ الكَريمِ مَحْلُوفٌ بِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ (ص): {ص، والقُرْآنِ ذِي الذَّكْرِ}، وقولِهِ مِنْ سُورَةِ القَلَمِ: {ن والقَلَمِ} لظهور الجرِّ فيهما، وَحِينَئِذٍ لَا يَخْلُو أَنْ تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عَلَيْهِما للقَسَمِ أَوْ للعَطْفِ، وَيَلزَمُ مِنَ الأَوَّلِ مَحْذورٌ، وهوَ الجَمْعُ بَيْنَ قَسَمَيْنِ عَلَى مُقْسَمٍ بهِ واحِدٍ، ويَسْتَكْرِهُ ذلك النحويُّونَ، والثاني مَمْنُوعٌ لِظُهُورِ الجَرِّ فيما بَعْدِها، والفَرَضُ أَنَّكَ قَدَّرْتَ المَعْطُوفَ عَلَيْهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ. وَهوَ وَاضِحٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ إِلَّا فِيما ظَهَرَ فِيهِ الجَرُّ بَعْدَهُ كالمَوْضِعَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ وغيرِهما، ك {حَم والكتابِ المبينِ} سورةُ الزُّخْرُفِ، وَ {ق والقُرآنِ} سورةُ (ق)، وَلَكِنَّ القائلَ بِذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَوْضِعٍ وَمَوْضِعٍ، فالرَّدُّ لازمٌ له. ويحتملُ فيه الجَرُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّها مُقْسَمٌ بِهَا، حُذِفَ منها حَرْفُ القَسَمِ، وبَقِيَ والجَرُّ.
تُقسَمُ حُرُوفُ الْعَربيَّةِ إِلَى نَوْعَيْنِ هُمَا: ثُنَائِيٍّ وَثُلَاثِيٍّ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ يَنْطِقُوا بِالثُّنَائِيَّاتِ مَقْطُوعَةً مُمَالَةً فَيَقُولُوا مثَلًا: (بَا، تَا، ثَا) وَهَكَذَا. أَمَّا الثُّلَاثِيَّاتِ الَّتِي فِي وَسَطِهَا أَلِفٌ مَفْتُوحَةٌ فإِنَّهم يُشْبِعونَ مَدَّ أَلِفِها، فَيَقُولُوا: (دَالْ، ذَالْ، صَادْ، ضَادْ) وَهَكَذَا كُلُّ ما كانَ على شْكَلِهَا، أَمَّا الزَّايُ وَحْدَهُ فَمُعْتَادٌ فِيهِ الْأَمْرَانِ مِنْ بَيْنِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَإِنَّ مَنْ أَظْهَرَ يَاءَهُ فِي النُّطْقِ حَتَّى يَصِيرَ ثُلَاثِيًّا لَمْ يُمِلْهُ، وَمَنْ لَمْ يُظْهِرْ يَاءَهُ فِي النُّطْقِ حَتَّى يُشْبِهَ الثُّنَائِيَّ أَمالَهُ.
وَإِشْبَاعُ الْفَتْحَةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أَصْلٌ، وَالْإِمَالَةُ فَرْعٌ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ إِشْبَاعُ كُلِّ مُمَالٍ، وَلَا يَجُوزُ إِمَالَةُ كُلِّ مُشْبَعٍ مِنَ الْفَتَحَاتِ.
ولِلْقُرَّاءِ هُنَا فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِالْأَصْلِ، وَهُوَ إِشْبَاعُ فَتْحَةِ الْهَاءِ وَالْيَاءِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُمِيلُوا الْهَاءَ وَالْيَاءَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْهَاءِ وَالْيَاءِ فَيَفْتَحُوا أَحَدَهُمَا ـ أَيُّهُمَا كَانَ، وَيَكْسِرُوا الْآخَرَ وَلَهُمْ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَتْحَةَ الْمُشْبَعَةَ أَصْلٌ وَالْإِمَالَةَ فَرْعٌ مَشْهُورٌ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ، فَأُشْبِعُ أَحَدُهُمَا وَأُمِيلَ الْآخَرُ لِيَكُونَ جَامِعًا لِمُرَاعَاةِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحَدِهِمَا وَتَضْيِيعِ الْآخَرِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الثُّنَائِيَّةَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ إِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً كَانَتْ بِالْإِمَالَةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً كَانَتْ بِالْإِشْبَاعِ وَ "هَا" وَ "يَا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كهيعص" مَقْطُوعَانِ فِي اللَّفْظِ مَوْصُولَانِ فِي الْخَطِّ فَأُمِيلَ أَحَدُهُما وَأُشْبِعَ الآخَرُ ليكونَ كِلَا الجَانِبَيْنِ مَرْعِيًّا، جَانِبَ الْقَطْعِ اللَّفْظِيِّ، وَجَانِبَ الْوَصْلِ الْخَطِّيِّ، وَفِيهِ قِرَاءَاتٌ:
إِحْدَاهَا: ـ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ، فِيها فَتْحَةُ الْهَاءِ وَالْيَاءِ مَعًا.
وَثَانِيهَا: فيها كَسْرُ الْهَاءِ وَفَتْحُ الْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ مُبَادِرٍ، وَالْقُطَعِيِّ عَنْ أَيُّوبَ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْهَاءَ دُونَ الْيَاءِ لِيَكُونَ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَاءِ الَّذِي لِلتَّنْبِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُكْسَرُ قَطُّ.
ثَالِثُهَا: فَتْحُ الْهَاءِ، وَكَسْرُ الْيَاءِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَالْأَعْمَشِ، وَطَلْحَةَ، وَالضَّحَّاكِ عَنْ عَاصِمٍ، وَإِنَّمَا كَسَرُوا الْيَاءَ دُونَ الْهَاءِ، لِأَنَّ الْيَاءَ أُخْتُ الْكَسْرَةِ، وَإِعْطَاءُ الْكَسْرَةِ أُخْتَهَا، أَوْلَى مِنْ إِعْطَائِهَا إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ لِلْمُنَاسَبَةِ.
رَابِعُهَا: إِمَالَتُهُمَا مَعًا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ، وَالْمُفَضَّلِ الضَبِّيِّ، وَيَحْيَى عَنْ عَاصِمٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عامرٍ، والزُّهْرِيِّ، وابْنِ جَريرٍ. وإِنَّما أَمالوهُما لِلْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي إِمَالَةِ الْهَاءِ وَإِمَالَةِ الْيَاءِ.
وَخَامِسُهَا: قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَهِيَ ضَمُّ الْهَاءِ وَفَتْحُ الْيَاءِ، وَعَنْهُ أَيْضًا فَتْحُ الْهَاءِ وَضَمُّ الْيَاءِ، وَرَوَى الزمخشَريُّ صَاحِبُ (الْكَشَّافِ) عَنِ الْحَسَنِ بِضَمِّهِمَا، فَقِيلَ لَهُ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْحَسَنِ لأَنَّهُ أَوْرَدَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي كِتَابِهِ (المُكْتَسَبُ) أَنَّ قِرَاءَةَ الْحَسَنِ ضَمُّ أَحَدِهِمَا وَفَتْحُ الْآخَرِ، لَا عَلَى التَّعْيِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَقْدَمَ الْحَسَنُ عَلَى ضَمِّ أَحَدِهِمَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ لِأَنَّهُ تَصَوَّرَ أَنَّ عَيْنَ الْفِعْلِ فِي الْهَاءِ وَالْيَاءِ أَلِفٌ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ كَالدَّارِ وَالْمَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلِفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِأَنَّهَا لَا اشْتِقَاقَ لَهَا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ مُشَابِهٌ لَهَا فِي اللَّفْظِ. وَالْأَلِفُ إِذَا وَقَعَ عَيْنَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي اللُّغَةِ ذَلِكَ فَلَمَّا تَصَوَّرَ الْحَسَنُ أَنَّ أَلِفَ الْهَاءِ وَالْيَاءِ مُنْقَلِبٌ عَنِ الْوَاوِ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْوَاوِ وَضَمَّ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْوَاوَ أُخْتُ الضَّمَّةِ.
وَسَادِسُهَا: "هَا" و "يَا" بِإِشْمَامِهِمَا شَيْئًا مِنَ الضَّمَّةِ.
المَسْأَلَةُ الثالثةُ: قَرَأَ أَبُو جَعفَر النَّحّاسُ "كَهَيَعَص" بِفْصْلِ الْحُرُوفِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ بِأَدْنَى سَكْتَةٍ مَعَ إِظْهَارِ نُونِ الْعَيْنِ، وَبَاقِي الْقُرَّاءِ يَصِلُونَ الْحُرُوفَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيُخْفُونَ النُّونَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ (صَادْ، ذُكِرَ) بِالْإِدْغَامِ، وَرويتْ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ بِالْإِظْهَارِ. عَنِ التَفْسيرِ الكبيرِ أوْ (مَفَاتِيحُ الغَيْبِ) للإمامِ الفخرِ الرّازيِّ بِشَيْءٍ مِنَ التَصَرُّفِ.