قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} لَمَّا رَأَتْ "مَرْيَمُ" ـ عَلَيْهَا السَّلامُ، المَلَاكَ متمثِّلًا لها بِصُورَةِ شابٍّ بهيِّ الطَلْعَةِ، وهي في وحيدةٌ في مَكَانٍ بعيدٍ عَنْ أهلِها وقومِها، خَشِيَتْ أَنْ يكونَ يريدُ بها سُوءً، فاسْتَعاذَتْ باللهِ مِنْهُ ولجَأتْ إِليهِ تعالى ليكفيها شَرَّهُ إنْ كانَ يريدُ بها شَرًّا.
وهوَ شَاهِدٌ عَدْلٌ لها بأنها عفيفةٌ طاهرةٌ، فلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهَا خاطرٌ مِنْ شهوةٍ أَوْ مَيْلٍ إِلَيْهِ، بالرَّغمِ مِنْ أنَّهُ كانَ جاءَ بصورةِ شابٍ فائقِ الحُسْنِ رائقِ الجَمَالِ، وهو ما جَرَتِ عليهِ عادَةُ المَلاكِ إِذَا أرادَ التَمَثُّلُ فإنَّهُ يَتَشكَّلُ بأَجملِ صُوَرِ البَشَرِ، فقد كانَ عندما يَأْتِي النَّبِيَّ ـ عليهِ صَلاةُ اللهِ وسَلامُهُ، كانَ غالبًا ما يتشَكَّلُ بِصُورَةِ دُحْيَةَ الكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، الذي كانَ مِنْ أجملِ خلقِ اللهِ صورةً، وذلكَ تأنيسًا لهُ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ. ولا يُنظَرُ إلى غيرِ ذَلِكَ مما وردَ عنْ بعضِ المُتَأَخِّرينَ ممَّا لا يَتَنَاسَبُ معَ رِفعةِ مَقَامِها، وعُلُوِّ درجتها، وما هيَ مُؤهَّلةٌ إِليْهِ ـ عليْها السَّلامُ، مِنْ أَمْرٍ مُعْجِزٍ، وآيةٍ عُظْمَى.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا مُطِيعًا للهِ تخافُهُ وتخشى عذابَهُ فلا يكونُ منكَ أَيُّ فِعْلٍ يُغضِبُ اللهَ تَعَالى. وَهَذَا كَقَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا باللهِ فَلَا تَظْلِمْنِي. أَيْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ إِيمانُكَ باللهِ تَعَالى، وخَشْيَتُكَ عذابَهُ مَانِعًا لكَ مِنَ الظُلْمِ. وَهَذَا أَبْلَغُ وَعْظٍ وَحَثٍّ عَلَى الْعَمَلِ بِتَقْوَاهُ.
قولُهُ تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ الساكنةُ لتأْنيثِ الفاعِلِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعودُ عَلى "مَرْيَمَ"، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "إِنِّي" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إِنَّ". و "أَعُوذُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنا" يَعُودُ عَلَى "مَرْيَمَ" عليْها السَّلامُ. و "بِالرَّحْمَنِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعُوذُ"، و "الرَّحْمَنِ" اسمٌ مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "مِنْكَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعُوذُ" أَيْضًا، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ" وَجُمْلَةُ "إِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جازمٌ. و "كُنْتَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متَحَرِّكٌ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتْحِ فِي محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "تَقِيًّا" خَبَرُ "كان" منصوبٌ بها، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: "إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا للهِ تَعَالَى فاتْرَكْنِي وَانْتَهِ عَنّي، وَالجُمْلةُ الشَّرْطِيَّةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ القولِ لِـ "قال".