وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يومَ وُلِدْتُ} السَّلامُ: يَعْني هُنَا العَافِيَةَ العامَّةَ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ سَلَّمْتُ سَلاَمًا. قالَ المُفَسِّرونَ: المَعْنَى: (السَّلامَةُ عَلَيَّ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ وُلِدْتُ حَتَّى لَمْ يَضُرَّني شَيْطَانٌ). تفسير الطَّبَري: (16/82)، تفسيرُ المَاوَرْدِي: (3/371)، تفسيرُ البَغَوِي: (5/230)، تفسيرُ القُرْطُبِي: (11/104). وهذا مَعْنَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَيَطْعَنُ الشَّيْطانُ فِي جَنْبِهِ، وَذَلِكَ حِينَ يَسْتَهِلُّ صَارِخًا، إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيِمَ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الحِجابِ)) الأَئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (2/553)، وأَخْرَجَ نَحْوَهُ البُخَارِيُّ فِي كِتَابِ "الأَنْبِياء" مِنْ صَحِيحِهِ"، بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} (3/1265)، وأَخرجَهُ مُسْلِمٌ، فِي الفَضَائِلِ، باب: فَضْلُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلامُ: (4/1838)، وغيرُهم.
وَقَدْ جَاءَ السَّلَامُ هُنَا مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ الأَظْهَرُ بَلْ هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَلِكَ للمُبَالَغَةِ فِي تَعَلُّقِ السَّلَامِ بِهِ، حَتَّى كَانَ جِنْسُ السَّلَامِ بِأَجْمَعِهِ عَلَيْهِ. فإِنَّ إِثْباتَ جِنْسِ السَّلامِ لِنَفْسِهِ تَعْريضٌ بإثْباتِ ضِدِّهِ لأَخصامِهِ، فهو كقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ طه: {والسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى} الآية: 47، فإِنَّهُ فيه تَعْريضٌ بِأَنَّ العَذَابَ عَلَى مَنْ {كَذَّبَ وَتَوَلَّى}. وَهَذَا مُؤْذِن بِتَفْضِيلِ عيسَى عَلَى يَحْيَى ـ عَليْهِما السَّلامُ، إِذْ قِيلَ فِي شَأْنِهِ: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ..} الآيةَ: 15، السَّابِقَةِ مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ، وَبَيْنَ النَّكِرَةِ. فَقِيلَ: سَلامُ يَحْيَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَرْجَحُ مِنْ هَذَا السَّلامِ، لِكَوْنِهِ مِنْ قوْلِ اللهِ تَعَالَى، بَيْنَمَا سلامُ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ نَفسِهِ، وَقِيلَ سلامُ عِيسَى أَرْجَحُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِقامَةِ اللهِ تَعَالى إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ مَعَ إِفادَةِ اخْتِصاصِ جَميعِ السَّلامِ بِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَقِيلَ: سَلامُ يَحْيَى سَلامُ تَخْصِيصِ الرُّبوبِيَّةِ عَلى العُبودِيَّةِ. وَسَلامُ عِيسَى مِنْ عَيْنِ الجَمْعِ، سَلامٌ فيهِ مَزِيَّةُ ظُهُورِ الرُّبوبِيَّةِ فِي مَعْدِنِ العُبودِيَّةِ. وأرْفَعُ المَقامَيْنِ سَلامُ الحَقِّ عَلى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كِفَاحًا فِي وِصَالِهِ وَكَشْفِ جَمَالِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِلِسانِهِ كَانَ بِلِسانِ الحَدَثِ، وَلَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ سَلامِهِ بِوَصْفِ قِدَمَهِ.
وقالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: لَمَّا جَرَى ذِكْرُ السَّلامِ قَبْلَ هَذَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلامٍ، كانَ الأَحْسَنُ أَنَّ يُذْكَرَ ثانِيَةً بِالأَلِفِ واللَّام. "مَعَاني القُرْآنِ وإعرابُهُ" للزَّجَّاجِ: (3/329).
وَيَجُوزُ جَعْلُ اللَّامِ لِلْعَهْدِ، أَيْ سَلَامٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَكْرِيمِ اللهِ عَبْدَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَبِالْأَمْرِ بِكَرَامَتِهِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الْأَحْزَاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما} الآيةَ: 56، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِ الْمُصلِّي: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
قولُهُ: {وَيَوْمَ أَمُوتُ، وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} لَمَّا كانَ السَّلامُ يَعْني السَّلامَةَ، فَـ "يومَ وُلِدْتَ" أَيْ فِي الدُنْيا، وَ "يَوْمَ أَمُوتُ" يَعْنِي فِي القَبْرِ، وَ "يَوْمَ أُبْعَثُ حَيَّا" يَعْني فِي الآخِرَةِ، لِأَنَّ لَهُ ثلاثةُ أَحْوالٍ: فِي الدُّنْيَا حَيًّا، وفي القَبْرِ مَيْتًا، وَفي الآخِرَةِ مَبْعوثًا، فَسَلِمَ فِي أَحْوَالِهِ كُلِّها.
وَقَدْ يَعْني بِـ "السَّلامُ عليَّ يَوْمَ وُلِدتُّ" سَلَامَتَهُ مِنْ هَمْزَةِ الشَّيْطانِ كَمَا تقدَّمَ في حديثِ النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ. وهوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} الآية: 36، مِنْ سورةِ آلِ عِمْرانَ. و "يَوْمَ أَمُوتُ" يَعْنِي سَلامَتَهُ مِنْ ضَغْطَةِ القَبْرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَدْفونٍ فِي الأَرْضِ، وَ "يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا"، سَلامَتُهُ مِنَ العَرْضِ وَالحِسَابِ لِأَنَّ اللهَ مَا رَفَعَهُ إِلَى السَّماءِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَلَّصَهُ مِنَ الذُّنوبِ وَالمَعَاصِي.
وَأخرج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ الإمامِ عامِرٍ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: فَقَراتُ ابْنِ آدَمَ ثَلَاثٌ: يَوْمَ وُلِدَ، وَيَوْمَ يَمُوتُ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فِي قَوْلِهِ: "وَالسَّلَام عَلَيَّ" الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قَالَ: مَا تَكَلَّمَ عِيسَى بَعْدَ الْآيَاتِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ الصِّبْيَانِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّ اللهَ أَطْلَقَ لِسَانَ عِيسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، مرَّةً أُخْرَى فِي صِبَاهُ، فَتَكَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى بَلَغَ مَا بْلَغَ الصِّبْيَانِ يَتَكَلَّمُونَ، فَتَكَلَّمَ: مُحَمِّدًا بِتَحْميدٍ لَمْ تَسْمَعِ الآذانُ مِثْلَهُ، حَيْثُ أَنْطَقَهُ طِفْلًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْقَرِيبُ فِي عُلُوِّكَ، المُتَعالي فِي دُنُوِّكَ، الرَّفيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ، أَنْتَ الَّذِي نَفَذَ بَصَرُكَ فِي خَلْقِكَ، وَحارَتِ الْأَبْصَارُ دُونَ النَّظَرِ إِلَيْكَ، أَنْت الَّذِي أَشْرَقَتْ بِضَوْءِ نُورِكَ دُجَى الظَّلامِ، وتَلَأْلَأَتْ بِعَظَمَتِكَ أَرْكَانُ الْعَرْشِ نُورا، فَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ خَالِقَ الْخَلْقِ بِعِزَّتِكَ، مُقَدِّرَ الْأُمُورِ بِحِكْمَتِكَ، مُبْتَدِئَ الْخَلْقِ بِعَظَمَتِكَ، ثُمَّ أَمْسَكَ اللهُ لِسَانَهُ حَتَّى بَلَغَ.
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، وَالمُفَسِّرونَ: (كَلَّمَهُمْ عِيسَى بِهَذَا ثُمَّ سَكَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ المُدَّةَ التي يَتَكَلَّمُ فِيها الصِّبْيَانُ) بَحْرُ العُلومِ للسَّمَرْقَنْدِيِّ: (2/323)، والمُحَرَّرُ الوَجيزُ للواحِدِيِّ: (9/466)، ومَعَالِمُ التَنْزيلِ للبَغَويِّ: (5/230)، والجامِعُ لِأَحْكامِ القُرْآنِ للقُرْطُبِيِّ: (11/104)، والدُّرُّ المَنْثُورُ للسُّيُوطِيِّ: (4/488). وَقَدْ تَقدَّمَ لَنَا تَرْجِيحُ غَيْرِ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
فالآيَةُ إِذًا تَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ إِذْ طَعَنُوا فِيهِ وَشَتَمُوهُ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَقَالُوا: وُلِدَ مِنْ زِنًى، وَقَالُوا: مَاتَ مَصْلُوبًا، وَقَالُوا: يُحْشَرُ مَعَ الْمَلَاحِدَةِ وَالْكَفَرَةِ، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَفَرَ بِأَحْكَامٍ مِنَ التَّوْرَاةِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} السَّلَامُ: مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "عَلَيَّ" على: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ: مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ} عَلَى كَوْنِهَا مَنْصوبةً بِـ {قَالَ}. وَ "يَوْمَ" مَنْصوبٌ على الظَّرفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَضَمَّنَّهُ "عَلَيَّ" مِنَ الاسْتِقْرارِ الذي هوَ خبرُ المُبتدأِ. وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ بِـ "السَّلامُ"، بسببِ الفَصْلِ بَيْنَ المَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ.
قولُهُ: {وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} يَوْمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ كسابقِهِ مُتَعلِّقٌ بما تعلَّقَ بِه. و "وُلِدْتُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكِ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفع نائبُ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَى "يَوْمَ". و "وَيَوْمَ أُبْعَثُ" مِثلُ "يَوْمَ وُلِدْتُ" معطوفٌ عَلَيْهِ. و "حَيًّا" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنْ فَاعِلِ "أُبْعَثُ".
قرَأَ العامَّةُ: {وُلِدْتُ} فالضميرُ لعيسى ـ عليْهِ السَّلامُ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "وَلَدَتْ" فجَعَلَهُ فِعلًا مَاضيًا مُسْنَدًا لِضَميرِ مَرْيَمَ ـ عَلَيْها السَّلامُ، والتاءُ للتَأْنيثِ.